أزمة بين فرنسا والجزائر بعد تصريحات اعلامية
للمرة الأولى في تاريخ العلاقات بين الجزائر وفرنسا تعلن الجزائر سحب سفيرها من باريس للتشاور وإلى أجل غير محدود، ولكنها المرة الثانية في غضون أقل من شهرين التي تتخذ فيها الجزائر خطوة احتجاج دبلوماسي حاد ضد باريس، بسبب ما تعتبرها حملة إعلامية موجهة ضد الجزائر. يؤشر ذلك في الوقت نفسه إلى اقتراب العلاقات بين البلدين شيئا فشيئا من حدود الصدام السياسي المباشر، خاصة مع نزوع جزائري واضح للتصدي للتوسع والتواجد الفرنسي في ليبيا والساحل وشمال مالي
وبثت قناة « فرانس 5″، وثائقيا عن الحراك الشعبي في الجزائر، مبنياً على معايشة يوميات خمسة من المتظاهرين من مناطق مختلفة لمرحلة الحراك، لكنه ركز على زاوية معالجة أوضاعهم الحياتية، ومطالبهم المتعلقة بقضايا التابوهات الاجتماعية، وحالة التمرد على تقييد الحريات الشخصية وتدخلات السلطة والجيش في الحياة الخاصة للجزائريين، فيما بثت القناة البرلمانية، « أل سي بي »، برنامجا تعرض للحراك من زاوية منطقة القبائل التي تقطنها غالبية من السكان الأمازيغ، بهدف إثارة النعرات العرقية. وتعتقد الجزائر أن القنوات المذكورة عمومية تابعة للدولة الفرنسية، وتعبّر بشكل أو بآخر عن الموقف الرسمي الفرنسي. وعلاوة على البيان الذي أصدرته الخارجية الجزائرية بالأمس، وأعلنت فيه استدعاء سفيرها
وهذه هي المرة الثانية في ظرف شهرين التي يثير فيها الإعلام الفرنسي أزمة دبلوماسية مع الجزائر. ففي الثاني من إبريل/نيسان الماضي، استدعت وزارة الخارجية الجزائرية السفير الفرنسي بالجزائر كزافيي دريانكور، لإبلاغه « احتجاج الجزائر الشديد على حملة إعلانية تشنها قنوات فرنسية، بينها قناة « فرانس 24″، ضد الجزائر، وإطلاق تصريحات وصفتها الخارجية الجزائرية بـ »الكاذبة والبغيضة والقذف لتشويه صورة الجزائر ». لكن بوادر الفتور بدأت قبل ذلك بكثير، و تصاعد الاحتجاج الجزائري على خلفية بعض المواقف والتصريحات التي أطلقها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ووزير خارجيته جان إيف لودريان، بشأن الوضع في الجزائر، عبر مطالبتهما بمرحلة انتقالية في البلاد، ودعوتهما إلى إطلاق الحريات والاستجابة لمطالب الشارع، وهو ما اعتبرته الجزائر حينها « تدخلا سافرا في الشؤون الداخلية للبلاد ».ان السحب والاستدعاء للتشاور هي الخطوة الأكثر شدة، وتعبر عن تشديد اللهجة، مقارنة مع ما سبق من استدعاء السفير الفرنسي لإبلاغه احتجاجا ما، وهي درجة احتجاج أخيرة قبل درجة سحب السفير نهائيا، والتي تعني قطع العلاقات الدبلوماسية
وبحكم مستويات الضغط السياسي والاقتصادي الذي كانت تمارسه باريس على الجزائر خلال العقود الماضية، فإن الخطوة الأخيرة، وبقدر ما تبدو جريئة سياسيا، تشي بأن السلطة الجزائرية تبدو في وارد استغلال معطيات تتعلق باختلالات سياسية واقتصادية داخلية في فرنسا من جهة، وعوامل محلية في الجزائر من جهة أخرى؛ إذ تأتي في سياق التحولات السياسية العميقة في داخل السلطة والجيش الجزائري، والتي تظهر في خطابات الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون منذ انتخابه. الذي أبدى، جرأة سياسية أكبر في التوجه بخطاب صدامي مع باريس، واتهم ما وصفها بـ »اللوبيات السياسية الفرنسية » باستهداف الجزائر والعمل ضد المصالح الجزائرية ومحاولة زعزعة الاستقرار في البلاد، ودعم مجموعات سياسية لمحاولة التأثير في مسار الأحداث والحراك الشعبي في الجزائر، وكذلك إبعاد الجزائر عن مسار المشاركة في حل أزمات المنطقة كليبيا ومالي. أن الخطوات الجزائرية المعلنة حتى الآن تظل غير كافية لإحداث توازن سياسي بين البلدين، أن « فرنسا كانت مستفيدة اقتصاديا في عهد (الرئيس الأسبق عبد العزيز) بوتفليقة بشكل بالغ، ومن غياب واستقالة الجزائر من دورها في المنطقة؛ اليوم السلطة الجديدة والرئيس تبون يحاولان التخلص من هذه التركة، لكن الخطوات المعلنة في الجزائر ما زالت غير كافية، لم نلمس قرارات جدية خارج خطوات الشجب السياسي ». وهل تملك الجزائر الآن الإمكانية لتحرر أكبر في المواقف، لتقليم اليد الفرنسية في مالي وليبيا، عبر سن قانون لتجريم الاستعمار مثلا؟
وبخلاف المشكلات السياسية السابقة بين الجزائر وفرنسا، والتي كانت تتأسس تحديدا على قضايا التاريخ والذاكرة الاستعمارية في الجزائر، فإن الأزمة الراهنة بين البلدين تأخذ في الحسبان معطيين رئيسيين، يتعلق الأول بوجود حزم سياسي يسنده دافع شعبي داخلي لتفيكك مجموعات المصالح السياسية والاقتصادية التي كانت تحفظ مصالح فرنسا في الجزائر، خاصة في قطاعات الصناعة والتجارة والطاقة، وكذا المصالح الثقافية في ما يتّصل بهيمنة اللغة الفرنسية أيضا؛ والثاني يتعلق بشعور جزائري عميق بوجود تهديدات جدية للأمن القومي الجزائري خاصة في الملفين الليبي والمالي، وكلاهما تلعب فيهما فرنسا دورا مركزيا. وترتبط القراءة السياسية للدور الفرنسي في الشأن الجزائري مع صعود نخبة عسكرية شابة في الجيش الجزائري، لها تكوين سياسي مختلف عن الجيل العسكري السابق، وتبدو أكثر حرصا على المصالح الجزائرية والإقليمية، واستيعابا للمخططات والدور الفرنسي في الساحل. أن توتر العلاقات مع فرنسا مكسب من مكاسب الحراك الشعبي الذي حرر السلطة السياسية، ووفر لها جبهة داخلية متفاعلة مع مواقفها إزاء فرنسا… هناك إجماع في الجزائر على ضرورة إعادة النظر في هذه العلاقات، لأنه كان من المعروف أن العلاقة القائمة بين النظام الجزائري وفرنسا الرسمية هي علاقة تبعية تقريبا رغم الخطاب الشعبوي الذي تتبناه السلطة عندنا لتوهم الشعب أنها تحارب فرنسا أو تعارضها، بينما كانت المصالح الفرنسية دائما محفوظة في الجزائر بشكل يفوق العادة ».وسبب هذا التوتّر وجود أزمة في النظامين، فمتاعب ماكرون في فرنسا لا تقل عن متاعب تبون »، ولا يستبعد حدوث قطيعة سياسية بين البلدين، فالأزمة مع فرنسا الرسمية جزء من الحل الذي يجب أن يأتي في الجزائر، لإنهاء فترة من هيمنة المصالح الفرنسية
Laisser un commentaire