القاتل النّيوزيلندي حصاد هذا الزّرع… الغرب ينام في سرير اليمين المتطرّف
ندى حطيط – القدس العربي – خمسون من المصلّين المسلمين ساجدين بوجوهٍ من ضوء، أطفأت أرواحهم روحٌ ملعونة تمشي على قدمين، انتحلت صفة رجل تجسدت فيه كل عنصرية الغرب وكراهيته للآخر، فحمل هناك في نيوزيلندا البعيدة الوادعة أسلحته الحربية وانطلق في هستيريا إبادة تشبه ما أقدم عليه أجداده عندما وطئت أقدامهم أرض الجزيرة فذبحوا أهلها ولم يُوفروا منهم أحدا. ولم تكتف تلك الروح الملعونة بفعل القتل، بل تباهت به في بثٍ حيٍّ على فيسبوك، وكأنها أرادت إقحام العالم كله في هذا الصخب الشيطاني المدمّى، بعدما كانت أرسلت متبجحة ما يشبه مانيفستو مكتوباً للإجابة على أسئلة متوقعة من الجمهور بشأن ما كانت تعتزم اقترافه. لقد كان وقع الصّدمة قاسياً وشاهقا من الناحيّة الإنسانيّة المحضة، كما جاءت خطة التنفيذ التي تتفوق على جلّ خيالات البشر لتروّع الكوكب كله، وتهزّ ثناياه. ومع ذلك، فإن المطلعين على أوضاع المجتمعات الغربيّة وتطورات الأحداث فيها وخاصة بعد الأزمة الماليّة العالميّة عام 2008 يعلمون أن تلك النوعيّة من الهجمات لا بدّ آتية إن لم يكن اليوم ففي الغد القريب، لا سيّما بعد أن قام أثرياء مشبوهون بتوجيه غضب الطبقات العاملة من فساد الأنظمة النيوليبراليّة إلى احتقان ضد المهاجرين الفقراء، ليصعدوا على أكتافهم زعماء جدد تتمحور سياستهم حول تصعيد الحروب الثقافيّة ضد الآخر (المسلم تحديداً بوصفه الرّمز النقيض لكل ما هو غربيّ وأبيض ونبيل!).
«عن الرّجل الذي لعب بالنّار»
عادة ما يرتبط بالذّهن أن الاعتداءات الفاشيّة الطابع تعود إلى مرحلة انقضت من التاريخ الغربي، فترة النصف الأوّل من القرن العشرين إبان صعود القمصان السود أتباع بينيتو موسيلليني في إيطاليا وفرق الشبان النازيّة أتباع أدولف هتلر.د ولذا يذهب الخيال بنا دوماً عند ذكر الفاشيّة أو اليمين المتطرّف نحو صور شاحبة بالأسود والأبيض قد بليت أو كادت لمتطرفين أصبحوا في ذمّة التاريخ موضعاً للاعتبار وربما إلقاء بعض اللّعنات كذلك. لكن الوثائقيّ التلفزيونيّ الجديد «عن الرّجل الذي لعب بالنّار» الذي يستعرض حياة الروائي والصحافيّ الإسكندنافيّ الراحل ستايج لارسون (1954 – 2004) – عرض في النسخة الأخيرة من مهرجان صندانس للأفلام – يكشف كيف أن تلك الظاهرة المقيتة لم تمت داخل المجتمعات الغربيّة لحظة صمتت مدافع الحرب العالميّة، وأن لارسون الذي يعرفه العالم من رواياته التي حققت أرقاماً قياسيّة بعد موته المبكر (ثلاثيّة «ميللينيوم» ومنها «الفتاة التي لعبت بالنار» واستعارها صانعو الوثائقي لوصف لارسون) قضى سحابة حياته المهنيّة في التحذير من هذا السّرطان الغادر، الذي يفتك بروح الغرب وثقافته، وهو كاد بالفعل أن يدفع حياته وعائلته ثمناً لإصراره الكشف عن بقاء هذا السرطان حيّاً بفضل جهات نافذة ذات ثراء. ووفق الوثائقي فإن لارسون التحق في سبعينيّات القرن الماضي بمجموعة صّحافيين شّباب وأسسوا مجلّة أسموها «إكسبو» تخصصت في ملاحقة عتاة اليمين المتطرّف والرّايات الّتي يعملون تحتها والكشف عن جرائمهم وارتباطاتهم المشبوهة، وكان هوسه الدّائم تحذير مجتمعه من خطورة استمرار نمو هؤلاء في الظلام بينما تغفل أو تتغافل عنهم السّلطات. ويقول نقاد أدبيّون الآن إن هذا الوثائقي قد يضع روايات لارسون – بيع منها بالملايين وأُنتجت أفلاماً سينمائيّة – في منظور جديد إذ أن كلا منها تصف جرائم واعتداءات يقوم بها أناس نافذون يعملون بالخفاء، ولديهم مواقف عنصريّة صريحة. لكنّ ما يهّمنا – وبفضل مجموع نصوصه – هذا السجّل التاريخيّ الكامل عن مآلات الفاشيّة الغربيّة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، مستفيدة من أجواء الحرب الباردة وتولي سلطات يمينيّة الحكم عبر أوروبا بدعم شبكات مشبوهة كانت ترعاها المخابرات المركزيّة الأمريكيّة – وهو أمر موثّق وعرض على المحاكم في غير ما بلد أوروبيّ -.
«النّوم مع اليمين المتطرف»
يقول الدّكتور بول جاكسون وهو أستاذ تاريخ متخصص في أيديولوجيّات اليمين المتطرّف في جامعة نورثهامبتون (المملكة المتحدة) أن هنالك علاقة ارتباط جليّ بين تصاعد شعبيّة متطرفي أقصى اليمين في الغرب والمساحة التي يفردها لهم الإعلام لإيصال أصواتهم.
وهو ضرب مثلاً على تضاعف شعبيّة زعيم الجبهة الوطنيّة اليمينيّة المتطرفة جان ماري لوبان بعد ظهوره في برنامج سياسيّ تلفزيونيّ ذائع الصيت داخل فرنسا عام 1984، بينما بقي قبلها لسنوات ولم يكد يسمع به أحد. وقد سمحت هذي الشُّهرة المفاجئة له ببناء تأثيرٍ متزايدٍ على الساحة السياسيّة والثقافيّة منذ ذلك الحين لدرجة أن ابنته ماري كانت المرشح الجدّي الوحيد مقابل الرّئيس ماكرون في آخر انتخابات رئاسيّة فرنسيّة. يأتي كلام الدكتور جاكسون بينما تتسابق وسائل الإعلام الغربيّ الموجه والمملوكة من قبل حفنة أثرياء لا تخفى ميولهم اليمينيّة على تقديم مساحات أوسع من الفضاء الإعلاميّ العام لقيادات متطرفي اليمين بحجة كشف مواقفهم للعامة. وللحقيقة فإن هؤلاء المتطرفين موجودون بكثافة على مواقع التّواصل الاجتماعي ويجدهم من يبحث عنهم بسهولة بالغة، لكن الإعلام الغربيّ باختياره المريب هذا، يمنحهم حريّة الوصول للجمهور العام ويضمن لوجهات نظرهم العنصريّة أن تكتسب شرعيّة الموقف السياسيّ ووصولاً غير مسبوق لفئات عريضة لا تمتلك القدرة على التقييم المستقلّ لادعاءاتهم، ليكون ذلك الإعلام شريكاً أساس في كل ما يرتكب من جرائم واعتداءات. خذ مثلاً الفيلم الوثائقيّ الذي يعرض هذي الأيّام على التلفزيون البريطاني – القناة الرابعة – تحت عنوان «النّوم مع اليمين المتطرّف». أليس ليفان وهي إحدى مذيعات «بي بي سي» المبتدئات قرّرت المشاركة بالجدل بشأن اليمين المتطرّف في بريطانيا من خلال وثائقيّ يسجّل وقائع من أسبوعٍ كاملٍ قضته في منزل أحد هؤلاء (المدعو جاك سين) مع عائلته ووالدته.
كانت النتيجة كارثة تامة ومكتملة الأذرع، فكل الذي فعلته ليفان أنها منحت سين السياسيّ الفاشل والمطرود من أحزاب فاشية لشدّة تطرّف آرائه ضد السود والمسلمين ساعة كاملة من الهواء المجانيّ أظهرته فيها إنساناً لطيفاً، وقدّمت له منصّة واسعة التغطية لطرح آرائه السياسيّة دون امتلاكها الدّراية أو الخبرة لمجادلته أو دحض أفكاره. وبالفعل تحوّل المتطرّف (الذي هو مختلط النسب من أب هندي وأم انكليزيّة) فور بثّ الحلقة إلى نجم بريطانيّ يدخل كلّ بيت بين ليلة وضحاها بعد أن كان مجرّد نكرة مهملة بمقاييس العمل السياسي في المملكة المتحدّة.
ليست وحدها (تنام) مع اليمين المتطرّف بل الإعلام الغربيّ كلّه
ليفان وفيلمها الوثائقيّ ليسا استثناء في علاقة الرّعاية المشبوهة هذه للمتطرفين اليمنيين وشعاراتهم. بل هي تكاد تكون مؤامرة واسعة النطاق تشترك فيها معظم بيوتات الإعلام البريطاني، بدءا من الصحافة اليوميّة ومروراً بالأفلام الوثائقيّة وانتهاء ببرامج الجدل السياسيّ، فكأن الإعلام الغربيّ كلّه قد اختار (النوم) في سرير اليمين المتطرّف. مؤخراً أطلقت قناة سكاي البريطانيّة (الخاصّة) برنامجا سياسياً جديداً اسمه «منقسمون» – بمعنى انقسامات الرأي -. وتفضّل المقدّم نيال بيترسون على الجمهور بمفاجأة استدعاء كولان روبرستون، أحد رفاق زعيم المتطرفين البريطانيين تومي روبنسون ومصوره الخاص بزعم مواجهته بشأن آرائه المُتطرّفة والمتناقضة أحياناً. والنتيجة مجدداً كارثة إعلاميّة أخرى لا تقلّ سوءا عن خطيئة ليفان مع جاك سين. إذ أن ساعة البرنامج تحوّلت إلى فضاء حرّ لفرض شخصيّة شديدة الهامشيّة على الجمهور العام ومنحها منصّة لطرح آرائها السياسيّة المتطرفة دون أن يحوز المقدّم الخبرة أو المعرفة (أو ربما الإرادة) لدحض تلك الآراء أو إظهار تهافتها. وهكذا انتهينا بروبرستون نجماً جديداً يسطع في سماء السياسة البريطانية وهو الذي فعلياً ضبابا مستترا.
المُجرم النّيوزيلندي حصاد هذا الزّرع
إذن، فإن النيوزيلندي قاتلنا كلنا، ليس قطعاً كما يحاول الإعلام الغربيّ تسويقه على مزاجه ومسطرته المنحرفة في منح وسوم الإرهاب بحسب لون البشرة أو الديانة، فيتجاوز عن ذلك الإرهابيّ الأبيض بأنه تارة مختل عقلياً أو مصاب بعقد نفسيّة جراء إدمانه ألعاب الفيديو العنيفة، أو تارة أخرى كذئب منفرد تأثر بخطاب الكراهيّة السائد في الغرب من أعلى قمة الهرم الأمريكي الترامبيّ، إلى نقاشات بريكست السفسطائيّة مروراً بأجواء صعود اليمين عبر القارة الأوروبيّة من أقصاها لأقصاها. القاتل ليس إلا ثمرة واحدة من ثمار زرع الحقد والتعال والعنصريّة التي سهرت السلطات الغربيّة وإعلامها المنحاز على إبقاء جذوتها متقدّة في كل الأوقات وخلق تناقضات بين أطراف المجتمع تصرف أنظارها عن هيمنة القلّة، تحصده الكثرة دماً وآلاماً وخوفاً ومزيداً من سياسات العداء والاستقطاب.
Laisser un commentaire