قضية خاشقجي تكشف انهيار نفوذ الكاوبوي الأمريكي في الشرق الأوسط
عندما يتعلق الأمر بتوصيف الورطة التي تواجهها الولايات المتحدة في السعودية فأقصى ما يمكن أن يوصف به الرئيس دونالد ترامب هو أنه مرتزق فقد قال للصحفيين في المكتب البيضاوي في مطلع الأسبوع إنه إذا لم تحافظ واشنطن على صلتها الوثيقة بالسعودية وتبيع لها السلاح سيلجأ السعوديون إلى موسكو أو بكين بدلا منها. وفي ضوء ذلك بدا أنه يشير إلى أن من واجب الولايات المتحدة أن تحافظ على خططها لإتمام صفقة سلاح قيمتها 110 مليارات دولار وعلى 450 ألف وظيفة قال إن هذه الخطط ستجلبها. وله في ذلك منطقه وهو منطق يفصح عن القضايا الجيوسياسية والأخلاقية الأشمل التي ينطوي عليها الأمر. ففي أنحاء الشرق الأوسط من تركيا إلى العراق والإمارات ومصر وغيرها، كلما حاولت الولايات المتحدة فرض إرادتها على حكومات يتزايد ميلها للحكم الاستبدادي اتجهت تلك الحكومات ببساطة إلى وجهة أخرى. فقد شهدت التداعيات الفوضوية لما أطلق عليه الربيع العربي، والتي شعرت فيها حكومات في المنطقة أن إدارة الرئيس السابق باراك أوباما انقلبت عليها في مواجهة انتفاضة شعبية، تدهورا سريعا في النفوذ الأمريكي. وهذا بدوره يزيد من الصعوبة التي تواجهها واشنطن للتأثير في الأحداث ناهيك عن المطالبة بالتحول الديمقراطي وبضبط النفس. غير أن السؤال الحقيقي قد يكون ما هو مدى استعداد أمريكا حقا للحفاظ على دورها في المنطقة؟ فليس ثمة شك في أن أمورا فظيعة تحدث في غرف التعذيب وسجون خصومها وحلفائها على حد سواء. إلا أن ما رددته تقارير عن الوحشية الفظيعة التي تم بها تعذيب الصحفي السعودي جمال خاشقجي وقتله وتمزيقه في القنصلية السعودية في اسطنبول هذا الشهر قد يمثل تحولا جوهريا. ولا يزال للولايات المتحدة بعض التأثير وهو ما يتضح في السرعة التي التقى بها العاهل السعودي الملك سلمان وولي العهد الأمير محمد بن سلمان هذا الأسبوع بوزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو. ومن الواضح أن المملكة الغنية بالنفط والقوة العالمية العظمي البارزة تشعران أن كلا منهما يحتاج للآخر، وكما قال بومبيو في اللقاءين فإن أيا من الجانبين لا يريد الخوض في الحقائق الملموسة عن خاشقجي مفضلا انتظار نتيجة التحقيق الذي تجريه الرياض. وقد بذلت إدارة ترامب والأسرة الحاكمة السعودية جهدا كبيرا لإقامة علاقات وثيقة بينهما في العامين الأخيرين. غير أن قضية خاشقجي عملت فيما يبدو على تعظيم المخاوف القائمة من كل الجوانب حول قيمة هذه التعاملات ومستقبلها. وحتى قبل الأزمة الأخيرة في العلاقات كانت أعداد متزايدة من أعضاء الكونجرس الأمريكي تريد وقف صفقات السلاح الأمريكي وتناقش علنا فرض عقوبات على السعودية. كذلك قطعت اثنتان من شركات الضغط الأمريكية الكبرى علاقاتهما مع الرياض. وينفي المسؤولون السعوديون، حتى الآن على الأقل، الضلوع في أي عملية قتل وذلك رغم التقارير التي ترجح أنهم سيقولون إن خاشقجي مات أثناء استجواب انحرف عن مساره. إلا أنه إذا كان أصحاب السلطة ضالعين، كما هو معتقد، فيما حدث فسيشير ذلك إلى مدى استهانتهم بالضغط الأمريكي والضغط الغربي الأوسع نطاقا. مع ذلك فإن سحب الدعم الغربي قد يزيد بعض الأمور سوءا من بعض الجوانب على الأقل. ففي اليمن على سبيل المثال حيث تقود الرياض تحالفا ضد حركة تمرد متحالفة مع إيران ربما تؤدي حملة قصف جوي سعودية تستخدم أسلحة وأساليب أكثر عشوائية على غرار ما تفعله روسيا – كما يحدث في سوريا- إلى مقتل المزيد من المدنيين بخلاف الآلاف الذين قضوا نحبهم بالفعل. حتى دول الشرق الأوسط التي كانت في وقت من الأوقات تعتبر حلفاء معتدلين نسبيا للغرب بدأت تتصرف على أهوائها. فقد قالت خدمة بازفيد يوم الثلاثاء إن الإمارات استعانت بمرتزقة أمريكيين في مؤامرة اغتيال فاشلة في اليمن. وفي اليوم نفسه أعلنت الإمارات توجيه الاتهام لبريطاني يحضر رسالة دكتوراه بالتجسس بعد اعتقاله أثناء رحلة لإجراء أبحاث. ومثل هذه التصرفات تثير انزعاجا في لندن وواشنطن غير أنه لا أحد يأبه لذلك تقريبا من زعماء المنطقة فيما يبدو. والآن يعكس كل جانب من جوانب السياسة في الشرق الأوسط هذا الاتجاه. فعندما تفجرت المظاهرات في سوريا في 2011 بذلت إدارة أوباما جهودا كبيرة في بحث أفضل السبل لاستخدام النفوذ الأمريكي. وتردد أنها اختارت أسوأ الخيارات وشجعت المعارضة دون أن تمنحها الدعم الكافي لإحداث تغيير كبير. ومن الواضح أن القرار أصبح الآن في أيدي روسيا والرئيس بشار الأسد وأصبحت الولايات المتحدة أشبه بالمتفرج. ورغم كل التقارير الأخيرة عن إطلاق أنقرة سراح قس أمريكي مسجون، فقد بذلت تركيا في عهد الرئيس رجب طيب أردوغان جهودا غير مألوفة لتنأى بنفسها عن واشنطن وكان من أبرز مظاهر ذلك شراء نظام روسي للدفاع الجوي. وفي الخليج لم تكن محاولات إدارتي ترامب وأوباما لتحسين العلاقات بين قطر حليفة الولايات المتحدة والإمارات والسعودية أفضل حالا من جهودهما لإدارة حرب اليمن. وحتى في العراق الذي لا يزال يعتمد على المساعدة العسكرية الأمريكية كانت الحكومات المتعاقبة أكثر انفتاحا على النفوذين الروسي والإيراني. وهذا اتجاه من المرجح أن يتسارع في السنوات المقبلة. ومن المرجح أن تكون أي إدارة ديمقراطية أمريكية مقبلة، أيا كان من يقودها، أقل استعدادا من سابقاتها لخوض مغامرة عسكرية أو التقرب إلى زعماء الشرق الأوسط. كما أن الحكومات الأوروبية أكثر حذرا. وتعتبر حربا العراق وليبيا تحذيرا جليا من التورط في المستقبل على الأقل فيما يتجاوز عمليات مكافحة المتشددين كما حدث لتنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسوريا وغيرها. وليس من الواضح أين تقع الخطوط الأخلاقية بل والعملية.ففي الحرب في سريلانكا عند استئنافها في 2006 ساعدت فظائع الحكومة على دفع الغرب لخفض المساعدات العسكرية. وملأت الصين وغيرها الفراغ بالكامل تقريبا بل وبأسلحة أكثر عشوائية وارتفع عدد القتلى بسرعة صاروخية نتيجة لذلك. وفي جوانب كثيرة يمثل الشرق الأوسط بأسره وخصوصا اليمن اختبارا لهذا المأزق الجوهري ذاته. والأمر يغري بالقول إنه يجب على الغرب ألا يلعب دورا في هذا السياق لكن هذا في حد ذاته له عواقبه. ومنذ فترة بدأ الصبر الغربي على السعودية ينفد لأسباب ليس أقلها غض الرياض الطرف منذ فترة طويلة عن الدعم الداخلي للتطرف الإسلامي بل والتشدد الديني في الخارج في بعض الأحيان. وإذا لم يكن مقتل خاشقجي القشة الأخيرة فربما يكون من الواجب أن تكون تلك القشة كارثة انسانية تتكشف فصولها في اليمن. وقد يتسم توصيف ترامب للوضع بالبلادة غير أنه أصاب في تحديد مدى الصعوبة، وربما في الوقت نفسه مدى التفاهة، التي أصبحت عليها الخيارات المتاحة أمامه وأمام من يخلفه
Laisser un commentaire