الرشوة في لبنان مرض خطير ينمو بسبب ضعف اجهزة الرقابة
ان واقع الحياة العملية في لبنان يدل على مأساة حقيقية نعيشها كل يوم إسمها الرشوة أو “الإكرامية”، والتي تقف حائلاً بين المواطن وبين معاملته القانونية. وعلى الرغم من الجهود المبذولة من قبل هيئات المجتمع المدني للتوعية حول مخاطر هذه الظاهرة وأضرارها على المجتمع والإقتصاد وسمعة الدولة، إلا أن ظاهرة الرشوة في لبنان تكاد تكون “سيدة الميدان” في معظم الإدارات والمصالح الحكومية. تُعدّ الرشوة بأشكالها المختلفة من الأمراض المجتمعية الخطيرة التي تنمو في ظل فساد إداري ومجتمعي بعيد عن الرقابة الفعالة بل بعيد عن أي وازع ديني وأخلاقي قد يكفي لخلق رقابة ذاتية ربما تُعدّ الأكثر جدوى من أية رقابة أخرى قد تفرضها القوانين والأنظمة والمتابعات الإدارية الأخرى.
الأبعاد الإجتماعية للرشوة
ولو أردنا تبسيط وصف الرشوة فيمكن القول إنها أحد أخطر “الثقوب” التي تستنزف خزائن الدول وجيوب الشعوب في الوقت عينه. وللرشوة أبعاد اجتماعية متعددة، بعد إقتصادي – مالي، وبعد حقوقي، وبعد مسلكي-أخلاقي.
البعد الإقتصادي – المالي يكمن في أن الموظفين المرتشين يستنزفون خزينة الدولة في عملية تحصيل رسومها من المواطنين ذوي العلاقة. هذا بالطبع شكل واحد من أشكال الرشوة وطريقة نهب مال الدولة. فالموظف المرتشي مستعد دوماً للإقدام على فعل الغش في مسؤوليته الرسمية في مقابل مبلغ محدد من المال يتلقاه من مواطن صاحب علاقة بمعاملة رسمية ما. ومثال على ذلك: تاجر بناء (وهم كثر اليوم) يلجأ إلى الموظف المسؤول عن تحديد القيمة التأجيرية لشققه التي ينوي بيعها. في المقابل، الموظف الفاسد مستعد كل الاستعداد للكذب على نفسه ودولته بتدوين مساحة كل شقة أقل بكثير من مساحتها الفعلية. والنتيجة هي: الموظف المرتشي قبض الرشوة والتاجر “الفاجر” دفع قليلاً من ماله ولكن بالمقابل، ربح الكثير من جرّاء تهربه من دفع الرسم الفعلي للدولة كضريبة على ممتلكاته. أما الخاسر الوحيد في هذه المعادلة المنحطة فهي الدولة، وبطلاها مجرمان اثنان أحدهما مفسد وثانيهما فاسد.
في البعد الحقوقي، الموظف الفاسد أخذ مالاً لا حقّ له فيه. فحق الموظف الرسمي هو راتبه وما قد يتبع ذلك من امتيازات قانونية تقدمها له الدولة. أما أي مبلغ يدخل إلى جيب الموظف الرسمي خارج ما تحدده له دولته هو مال حرام يجب أن يحاسبه عليه القانون. والمواطن الذي ارتكب فعل الرشوة قام بالتلاعب والالتفاف على حقوق دولته عليه، بالتواطؤ مع الموظف المرتشي. الأمر المهم هو أن حق الدولة في نهاية الطريق هو حق الشعب، فإن الدولة المسيّبة حقوقها هي بالضرورة مسيبة لحقوق شعبها. تقول النظرية العلمية “كل ما يبدأ خطأ سوف ينتهي بالضرورة بالخطأ”. ويعتقد كبار الباحثين الإقتصاديين في لبنان إن تخلّف الدولة عن قيامها بواجباتها تجاه شعبها سببه الأول الفساد.
في البعد المسلكي- الأخلاقي، بحسب رأي علم الإقتصاد وعلم الإجتماع معاً، المرتكز الأساسي والأول لدولة فعالة وعادلة وناهضة متطورة هو الأخلاق. المجرم ليس فقط من يقتل إنساناً. القتل جريمة فردية لها أسبابها ودوافعها العديدة، أما المواطن الذي يُقدم على فعل الرشوة والموظف المرتشي كلاهما مجرم بحق شعب بأكمله.
بناءً على بحث أكاديمي قامت به دائرة الإقتصاد في إحدى الجامعات اللبنانية حول الرشوة في لبنان، يؤكد البحث أن مجموع ما سُرق ونُهب من مال من داخل أجهزة الدولة وخارجها منذ العام ١٩٩٢ إلى اليوم يشكّل أكثر من ٤٠% من الدين العام الملقى على أكتاف الشعب اللبناني وهو الآن في جيوب اللصوص والفاسدين. ولا مبالغة في القول إن الرشوة باتت أمراً معروفاً بل بديهياً في معظم الدوائر الرسمية. فالموظف تجده لا يتحرك إلا إذا وعدته بمنفعة مادية أو معنوية. فعلى سبيل المثال لو ذهب شخصان لإنجاز معاملة قانونية الأول يحمل كتاب توصية من وزير والثاني يحمل منفعة مادية، تُرى من ينجز معاملته أولاً ؟ بالطبع المنفعة المادية تسبق كل شيء. والغالبية الكبرى من الموظفين تجدهم يحبون تلقّي “الإكراميات”. وكلمة إكرامية هي تجميل للحقيقة المرة لكلمة “رشوة “. ولكن نتساءل عن الأسباب التي تؤدي إلى فعل الرشوة وما هي الخطوات التدبيرية التي يجب أن تتخذ لمحاربة هذه الآفة التي تهز كيان الإدارات العامة للدولة. ذلك أن الإتجار بالوظيفة العامة واستغلالها للمصلحة الشخصية للموظف هو أساس جريمة الرشوة ولذلك فقد نصت المادة ٣٥١ من قانون العقوبات اللبناني على ما يلي:”كل موظف وكل شخص نُدب إلى خدمة عامة سواء بالإنتخاب أو بالتعيين وكل امرىء كُلف مهمة رسمية كالحَكم والخبير والتمس أو قبل لنفسه أو لغيره هدية أو وعداً أو أي منفعة أخرى ليقوم بعمل شرعي من أعمال وظيفته عوقب بالحبس من ثلاثة أشهر حتى ثلاث سنوات”. كما نصت المادة ٣٥٢ من القانون نفسه:”كل شخص من الأشخاص السابق ذكرهم التمس أو قبل لنفسه أو لغيره هدية أو وعداً أو أي منفعة أخرى ليعمل عملاً منافياً لوظيفته أو يدّعي أنه داخل في وظيفته أو ليهمل أو يؤخر ما كان عمله واجباً عوقب بالأشغال الشاقة المؤقتة”. نرى من خلال هاتين المادتين أن القانون ميّز في المادة الأولى مَن يقبل الرشوة لأداء خدمة قانونية تقتضيها وظيفته التي هو أساساً مسخّر لأداء الخدمات فيها. أما في المادة الثانية فقد أشار القانون إلى استغلال الوظيفة لأداء ما هو مخالف للقانون وللوظيفة. إذن فالقانون نصّ على معاقبة الراشي والمرتشي، لكن هل طُبقت هذه المادة أم بقي روح النص يعيش بلا جسد يطبق عليه العقوبة؟ والطامة الكبرى تكمن في الدوائر العقارية اللبنانية. الحقيقة أنه مهما تكلمنا عن سوء حال موظفيها لا نعطي أحداً حقه في هذه الدوائر. الأمر ليس من تحت الطاولة، بل هناك مافيات تعمل بشكل علني اللهم بعض الموظفين المتحضرين في منازلهم وليس في دائرتهم! الأمر الذي لا ينفي وجود الفساد وانتشار ثقافة الارتشاء في سائر الإدارات، من أقلام النفوس وجباية الضرائب وحتى وصولاً إلى المحاكم الدينية!
أسباب الرشوة
يعمد البعض إلى تفسير انتشار ظاهرة الرشوة من خلال التركيز على الأسباب التالية:
– عدم التناسب بين الرواتب وغلاء المعيشة.
– عدم وجود رقابة صارمة على الموظفين.
– خوف صاحب المصلحة من إهمال معاملته يدفعه إلى عرض الرشوة.
– عدم وجود نظام صحيح للحوافز لدى الموظفين.
يقول رجل الدولة الكبير شارل ديغول:”إذا كنت أريد أن أبني دولة راقية ومتطورة يجب أن يكون جميع المسؤولين فيها لا جيوب في سراويلهم ولا مذلّة في قلوبهم”. والحقيقة أنه مهما قلنا عن إصلاحات وحلول وقوانين، فالرشوة داء عضال لا يمكن الشفاء منه إلا من خلال إصلاح الفرد وتهذيبه وتعليمه، ابتداءً من أصغر موظف في الدولة وصولاً إلى أعلى المناصب. ولا قيام لدولة ما دمنا نعيش وسط غابة من اللصوص وعديمي الكرامة، ولا يمكن بناء إدارة فعّالة وشريفة وساهرة على شؤون شعبها، ما دامت أجهزتها الرسمية مسخّرة لجيوب الفاسدين والعديمي الأخلاق
Laisser un commentaire