كلمة الرئيس اللبناني ميشال عون التاريخية في مؤتمر الحوار اللبناني – الأوروبي
عقد هذا المؤتمر تحت عنوان حوارات المتوسط، وفي عنوانه رؤية واستشراف واعتراف بأن الحوار صار ضرورة ملحّة وبأنه طريق الخلاص مما يتخبط به عالمنا اليوم وخصوصاً الارهاب المتنقل الذي لا يعرف حدّاً ولا حدوداً. لذلك اخترت لكلمتي، موضوع الإرهاب، أسبابه الحقيقية وسبل المعالجة إن الإرهاب، من حيث هو عنفٌ ممنهج تقوم به مجموعات مسلحة لتغيير واقع، أو فرض معادلات جديدة غالباً ما تكون أسوأ من الموجود، ليس مستحدثاً، وقد عرفه العالم في مختلف الحقبات، وبأوجه متعددة ةولعل الإرهاب الذي يضرب عالمنا اليوم هو أكثرها خطورةً لأنه أوسعها انتشاراً، وأحدثها سلاحاً فكيف نشأ وكيف تطور وكيف توسّع حتى طاول تهديده كل دول العالم؟ في العام 1979 دخل السوفيات الى أفغانستان، فدعمت الولايات المتحدة الأميركية، وبالتعاون مع بعض الدول العربية والإسلامية ، قيام مقاومة مضادة مرتكزها الدين الإسلامي، من منطلق أن المعتقدات الاسلامية تتناقض مع الشيوعية والفكر الإلحادي وتشكل سداً منيعاً في وجه امتدادها. ولكن الأميركيين كانوا يجهلون أن الاسلام، وإن يكن ضد العقيدة المادية الشيوعية، لكنه ليس فكراً غربياً وله شخصيته المختلفة عن الاثنين معاً. ومع الوقت تحول المجاهدون الأفغان، الذين دُعموا بالمال والسلاح، الى تنظيم إرهابي انحرف بمفهوم الجهاد ليستقطب الشباب المسلم من كل أنحاء العالم، فولدت منظمة القاعدة… القاعدة نفسها التي نفّذت في العام 2001 اعتداءات 11 أيلول في نيويورك. انقلبت آلة الإرهاب على صانعها، وفي المقابل قرر الصانع تدمير آلته، وبدأ الزلزال الأميركي يعصف. حرب جديدة في أفغانستان أولاً، ما لبثت أن انتقلت الى العراق، وفي البلدين خلّفت الكثير من الدمار والموت والكراهية. ومع الضغط العسكري المتواصل على القاعدة تفككت لتتفرّع عنها تيارات عقائدية مختلفة وتنظيمات إرهابية جديدة ومتعدّدة أخذت تنمو وتتمدد. في العام 2005 ظهر أبو مصعب الزرقاوي في العراق مكفراً الشيعة، والتكفير في مفهوم الأصوليين المتطرفين يعني وجوب القتال والقتل، وتوالت المشاهد الإجرامية الإرهابية متخذةً طابعاً طائفياً ومذهبياً. وبدا واضحاً المخطط الذي يرسم للمنطقة، وأقول واضحاً لمن كان يريد الرؤية؛ إرهاب جديد يُصنع وساحات جديدة تعد للتدمير. وبدأ التنظير لمفهوم « الشرق الأوسط الجديد » و »الفوضى الخلاقة » و »الربيع العربي »، وبدأت معه الدول العربية تشتعل من تونس الى ليبيا الى مصر الى سوريا وكذلك بعض الدول الأفريقية. لقد رفعت الصوت مراراً وتكراراً محذراً من الانجرار في الحرب السنية الشيعية وما يمكن ان تجرّه على منطقتنا من ويلات، وأبلغت سفراء الدول الأوروبية وكل من زارني من سياسيين غربيين بأن ما يُعد للمشرق، إذا ما قيض له النجاح، لن تقتصر أضراره علينا بل ستكون له انعكاسات كبرى في أوروبا، ولن تكون هناك من حدود فاصلة، فالمتوسط يجمعنا. ولكن المخطط كان أقوى من اي تحذير، وها هو شرقنا كله يعاني عبء التداعيات، وها هو الإرهاب يتنقّل من دولة الى أخرى في أوروبا. كذلك حذّرت مرارا وتكرارا منذ التسعينات، من تنامي الأصولية التكفيرية وخطورة مخططاتها على لبنان والمنطقة كما على أوروبا، فلبنان على خط التماس بين اوروبا والمشرق وأي خسارة هنا لن تكون من دون انعكاسات هناك، لهذا وجّهت في العام 1989 رسالة إلى الرئيس الفرنسي الراحل فرنسوا ميتران، لفتّ فيها الى أن المواجهة بين الغرب والتكفيريين المتطرفين ستكون من دون شك إحدى أهم المسائل عند نهاية هذا القرن. وإن لبنان الذي يحاولون ضربه هو أرض يشكل فيها الحوار الاسلامي المسيحي ثقافة جوهريّة وأسلوب حياة طالما تميزنا بهما عن باقي العالم. وفي مقابلة مع صحيفة خليجية في العام 1994 حذّرت من أن « الأصوليين يشكلون قي المقام الأول تهديداً للإسلام، وإنهم سيصلون الى السلطة في الدول الإسلامية، وسيفشلون وكرّرت رفع صوت التحذير مجدداً،عندما كنت في المنفى، عبر رسالة الى « حكام العالم » في العام 1995 وكانت بعض الحوادث الإرهابية قد بدأت تطل برأسها، من البوسنة والجزائر وحتى باريس، وقلت يومذاك « إنها إشارات تُنذر بصراعات مهدِّدة لغدِنا، تعجز عن تدارُكِها الروادع النووية والحروب التقليدية، وأن لا أحد بمنأى عن العنف الذي يولّده انفجار المشاعر العرقية والأصولية، وإن تلك الجرائم التي تغذّت في مختبرات الواقعية السياسية، ستنقل العدوى الى أولئك الذين تركوها تنمو ». ولكن، لم تلق تحذيراتنا آذاناً صاغية ، لأن أحداً لم يرد الإصغاء. فإن كان المتضررون من الإرهاب كثراً فإن المستفيدين منه كثر أيضاً، ولا إرهاب يكبر ويتمدد ويقوى من دون دولٍ راعية. عوامل عدّة تتضافر وتمهّد الطريق لنشوء الإرهاب، أولها نظام تعسفي، بديمقراطية مزيفة او ديكتاتورية معلنة، لا يجد فيه المواطن فسحة للتعبير أو إمكانية لتغيير السلطة بالطرق الديمقراطية، معطوفاً على الفقر والحاجة والجهل، ثم فكر متطرّف وتعصّب يحرّك الغرائز ويقتل العقل ويشلّ المنطق ويقدّم الحلول الوهمية فيسهل التطويع. ثم دولة، أو دول، تستغل كل هذا فتموّل وتدعم، وتستولد إرهاباً جديداً بمسمّى جديد، وتستخدمه لتحقيق مصالحها عبر ضرب دول أخرى، باقتصادها، بأمنها، باستقرارها غير آبهة بالعذابات التي قد تسببها لشعوبها… هذه هي المعادلة النموذجية لقيام التنظيمات الإرهابية. ولكن، المعادلة أياها تقول إن آلات الدمار تلك قد تخرج عن السيطرة وتبدأ بالضرب خبط عشواء وهذا ما حصل بالضبط مع الإرهاب الحالي، فقد بدأ نشاطه الإجرامي في بعض الدول العربية التي عصف بها ما سُمي بـ »الربيع »، ولكنه ما لبث أن توسّع وامتد ليضرب أوروبا في عمقها فأصاب مما أصاب باريس ولندن وبروكسيل ومدريد ونيس وميونيخ وكذلك الولايات المتحدة وسواها. واليوم الخطر متنقّل والتهديد جدي بين خلايا نائمة وذئاب متوحّدة، ولا أحد يعرف كيف يمكن أن يضرب أو أين، ولا الى أين يمكن أن يصل أو كيف سينتهي. كي لا يبقى العالم فريسة التطرف القاتل لا بد من وضع أسس لمعالجة مزدوجة: آنية تقضي على الواقع الحالي، وجذرية تمنع تكرار قيامه مستقبلاً وإذا كانت المعالجة الآنية تقضي بصد الإرهاب عسكرياً وردعه بالقوة وتجفيف المنابع المالية التي تغذيه، ومنع رفده بعناصر جديدة. فإن المعالجة الجذرية هي الأهم، لأنها تمنع قيامه من جديد من خلال القضاء على مسوغات وجوده، أي الأيديولوجيا. إن الفكر الإرهابي هو فكر شمولي، يناقض حق الاختلاف ويبيح قتل الآخر المختلف، لا بل يدعو لذلك، وينفّذ. من هنا، فإن تطوير القيم الديمقراطية، التي تحترم حق الانسان بالاختلاف وحرية المعتقد والتعبير والرأي، وتحترم فرادته الدينية والعرقية والإتنية وتسمح له بعيشها، هو وحده القادر على المواجهة الفكرية مع أيديولوجية الإرهاب. ومما لا شك فيه أن تحديث التعليم والتربية على القيم الديمقراطية، بالإضافة الى الإنماء ومحاربة الفقر وخلق فرص العمل، وتحرير المرأة، تواكب مجتمعةً عملية الانتقال المتدرّج للدول من الأنظمة المتخلّفة التي تشكل البيئات الملائمة لنمو الإرهاب والتطرّف، نحو الديمقراطية الكاملة وقبول الفوارق بين البشر. ة وفي السياق، وما دمنا في مؤتمر « حوارات المتوسط » فإنني أرى أن منطقة حوض البحر الابيض المتوسط التي تتوسط القارات الثلاث البيضاء والسمراء والسوداء، تجمع ما بين ثقافات كل الديانات السماوية، وتكتنز إرثاً سخياً من ثقافات وحضارات ولغات شعوب العالمَين القديم والحديث، وهذا ما يجعلها مؤهلة لتكون موئلاً للحوار المشترك ما بين هذه الثقافات والأديان. إن لبنان هو مجتمع تعددي بطبيعته، يجمع المسيحيين بكل مذاهبهم والمسلمين بكل مذاهبهم، يعيشون معاً، يتشاركون الكثير من العادات والقيم والحياة الاجتماعية والسياسية… قد يركبون أحياناً موجة الانقسامات السياسية، ولكن انقساماتهم لم تعد تتخطى السياسة، وسقفها وحدتهم الوطنية، وهذا ما دفع قداسة البابا يوحنا بولس الثاني الى القول عن لبنان « إنه « أكثر من بلد، إنه رسالة ».. وهذه الرسالة بالضبط هي التي دفعتني الى التوجه للأمم المتحدة مرشّحاً لبنان ليكون مركزاً دائماً للحوار بين مختلفِ الحضارات والديانات والأعراق، ومدرسة لإعداد مربّين يحملون القيم الإنسانية والعيش المشترك، وهي نفسها دفعتني للوقوف أمامكم اليوم، داعياً الى تبني هذا التوجه. وفي اعتقادي أن الحضارة المتوسطية هي خير من يحتضن هذا الحوار من خلال الروابط التاريخية والثقافية التي تجمع بينها، وهي المعنيّة أكثر من سواها بالحوار بين الحضارات والأديان، للقضاء على الإرهاب والعنف اللذَين يجتاحان العالم. فهل تكون رائدة في المبادرة إلى حوار الأديان والثقافات؟ إنها أكثر من رغبة، إنها دعوة أتركها أمانة بين أيدي هذه النخبة وقد اجتمعت حول هدف سامٍ تسعى إليه الدول الرابضة على ضفتي المتوسط، وأنا على ثقة أن هذا التحدي سيلقى صداه
Laisser un commentaire