ايران وخياراتها بعد الاستفتاء الكردي للاستقلال
اقام «إقليم كردستان العراق» استفتاءا على الاستقلال الكردي في العراق، وهناك دلائل متزايدة على أن إيران تنظر في اتخاذ إجراءات صارمة وفي الوقت الذي تزيد فيه طهران من الضغط الدبلوماسي على «إقليم كردستان العراق»، فقد تكون التدابير العسكرية قيد البحث أيضاً، سواء على المدى القصير الأمد أو الطويل الأمد.
تاريخ من الانتفاضات
أدى انعدام التماسك السياسي بين الملايين من الأكراد المنتشرين في جميع أنحاء الشرق الأوسط إلى منعهم من تحقيق حلمهم بالاستقلال وإقامة الدولة. وقد دفع هذا الحلم بدوره الكثير منهم إلى خوض صراعات مسلحة ضد الحكومات التي يعيشون في ظلها. وكانت الدولة الكردية الحديثة، جمهورية مهاباد التي تأسست عام 1946، هي الوحيدة التي قامت في أجزاء من كردستان الإيرانية بدعم مباشر من الاتحاد السوفياتي. وكانت تلك الجمهورية التي أُعلنت من جانب واحد مسقط رأس حركة البشمركة، لكنها سرعان ما انهارت بعد انسحاب القوات السوفياتية من إيران في العام الذي أعقب الإعلان عن إقامة الجمهورية.
وفي ستينيات القرن الماضي بدأ التمرد الكردي المسلح ضد الحكومة المركزية في طهران، حيث وقفت عشيرة البارزاني الكردية في العراق في البداية إلى جانب المتمردين الأكراد الإيرانيين. وتم قمع ذلك التمرد في النهاية بمساعدة المستشارين العسكريين الأمريكيين. وبعد سنوات، جاء عسكريون إيرانيون وأمريكيون لمساعدة الأكراد العراقيين الذين كانوا يقاتلون من أجل الحصول على الحكم الذاتي من حكومة البعث في بغداد. واستمر ذلك الدعم السري إلى أن تم توقيع اتفاق الجزائر بين إيران والعراق في آذار/مارس 1975، مما أدى إلى توقف حركة التمرد بصورة مؤقتة.
وقد تسببت الثورة الإيرانية عام 1979 واشتباكات البلاد على الحدود مع العراق عام 1980 في وقوع سلسلة من المناوشات المسلحة والقتال الدموي مع المتمردين الأكراد الإيرانيين في المدن، الا ان التمرد الأخير فشل مرة أخرى فى الحصول على الحكم الذاتي. وأُعيد إحياء التمرد المسلح الكردي بسبب الحرب الإيرانية – العراقية، إلّا أن تقييمات المخابرات الأمريكية من أوائل الثمانينات قد قدّرت بأن الإنشقاقات الداخلية العميقة حالت دون قيام الأكراد بتهديد الحكومات الإيرانية والعراقية والتركية بصورة خطيرة. وعلى الرغم من ذلك، واصلت عدة جماعات – من بينها «حزب الحياة الحرة الكردستاني» («بيجاك»)، وهو فرع من «حزب العمال الكردستاني» الذي مقره في تركيا – خوض تمرد منخفض الشدة ضد الحكومة الإيرانية منذ أوائل العقد الأول من القرن الحالي.
وفي الوقت نفسه، حقّق «إقليم كردستان العراق» قدراً كبيراً من الحكم الذاتي بعد حرب الخليج عام 1991، وغالباً ما تمتع بعلاقات حسن الجوار مع إيران حتى في ظل النزاعات المسلحة بين الأحزاب الكردية العراقية. وكان أحد هذه الأحزاب، «الاتحاد الوطني الكردستاني»، قد أقام علاقات وثيقة مع طهران خلال الحرب الإيرانية – العراقية، عندما شارك مع عناصر من «الحرس الثوري الإسلامي» الإيراني لمحاربة صدام حسين. ومع ذلك، وضع «الاتحاد الوطني الكردستاني» هذه العلاقة في خطر من خلال دعمه للحملة الحالیة لاستقلال «إقليم كردستان العراق».
مكافحة التمرد المحلي
يُظهر تاريخ إيران الدموي من التمرد الكردي كيف أن طهران مستعدة لبذل قصارى جهدها لمنع قيام حكم ذاتي كردي على أراضيها، ناهيك عن منح الاستقلال للأكراد الإيرانيين. ولا تزال إيران تحتفظ بقوات عسكرية كبيرة بالقرب من المناطق التي يسكنها الأكراد في أقاليم كردستان وأذربيجان الغربية وكرمنشاه. وفي السنوات الأخيرة، شهدت هذه القوات تصاعداً في الاشتباكات المسلحة مع المتمردين الأكراد، مما أسفر عن وقوع خسائر فادحة في كلا الجانبين.
تجدر الاشارة إلى أن جماعتي المعارضة الكرديتين الرئيسيتين فى البلاد هما «حزب كومله الكردستاني الإيراني» و«الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني». كما أن «بيجاك» نشطاً جداً في المناطق الكردية. وإذا قامت كردستان قوية ومستقلة في العراق، فقد تصبح الاضطرابات الكردية الإيرانية أكثر صخباً وتشدداً. وهذه المخاوف هي المحرك الرئيسي وراء معارضة طهران الشديدة لاستفتاء «إقليم كردستان العراق» والدعوات إلى الاستقلال بشكل عام. ونتيجة لذلك، تراقب أجهزة المخابرات الإيرانية عن كثب المجتمعات الكردية في البلاد لمعرفة ما إذا كانت هناك علامات سخط أو أنشطة انفصالية.
كما أن طهران قلقة من الخطط الجيوسياسية الإسرائيلية المُتصوَّرة حول شمال العراق، وربما ترى تأييد إسرائيل العلني للاستفتاء بمثابة رد الدولة اليهودية على سنوات من تموضع إيران/«حزب الله» على حدودها الشمالية وتهيؤهما ضد إسرائيل. ولذلك ستواصل إيران التدقيق في العلاقات الكردية – الإسرائيلية.
قدرات إيران العسكرية في شمال غرب البلاد
لدى إيران أربعة هياكل للقيادة والسيطرة من أجل التعامل مع التهديدات التي تتراوح بين شن غارات عبر الحدود والقيام بأعمال شغب في الشوارع في المناطق الكردية. ويتولى مقر «حمزة سيد الشهداء» التابع لـ «الحرس الثوري الإسلامي» في أورميا التعامل مع القطاع الشمالي الغربي، بينما يتولى مقر «النجف الأشرف» [التابع لـ «حرس الثورة الإسلامية»] في كرمنشاه [التعامل مع القطاع] الغربي. ويشرف هذان المقران معاً على أربعة فيالق، من بينها «فيلق بيت المُقدّس» في محافظة كردستان؛ ولكل فيلق فرقة تضم لواءين.
ودائماً ما تخشى طهران من أن تؤدي عملية أمنية عقابية ضد جماعة أو بلدة كردية إلى إثارة المزيد من الاضطرابات الأكثر انتشاراً في مناطق أخرى. ولذلك كَلَفت هذه المقرات المحلية التابعة لـ «الحرس الثوري الإسلامي» وجماعات «الباسيج» المنتسبة إليها، إلى جانب أجهزة الاستخبارات المختلفة، بإنشاء نظام للتحكم والاحتواء في المناطق الحضرية الكردية يأتي في المرتبة الثانية فقط بعد ذلك الذي يمكن مشاهدته في إقليم طهران.
وتُكَمِّل القوات المسلحة الوطنية الإيرانية [الجيش الوطني]، أو “أرتيش” هذه الجهود من خلال مَقرَّيْ القيادة الإقليمية “الشمالية الغربية” و”الغربية” الخاصين بها، في أورميا وكرمنشاه أيضاً. ويسيطر كل منهما على ثلاثة مقار تابعة لهياكل الفرق التي تعمل وحداتها الفرعية كـ “ألوية عاملة” مستقلة، يقال إنها تتمتع بمزيد من القوة النارية والتنقل. وتركز الوحدات أساساً على التهديدات الأجنبية؛ وتشمل “اللواء 35″، الذي هو وحدة القوات الخاصة للرد السريع في كرمنشاه، وعادة ما تكون أول قوة “أرتيش” يتم نشرها رداً على أي حادث حدودي.
موقف متشدد ضد الاستفتاء
في 17 أيلول/سبتمبر، هدد أمين “المجلس الأعلى للأمن القومي” الإيراني، علي شمخاني، بقطع جميع الاتفاقات العسكرية والأمنية مع «إقليم كردستان العراق» وإغلاق جميع المعابر الحدودية إذا ما مضى الأكراد قدماً في استفتائهم، في حين أشار رئيس البرلمان علي لاريجاني إلى إمكانية فرض حصار اقتصادي. كما هدد شمخاني باستخدام “تدابير مختلفة تماماً” ضد جماعات المعارضة الكردية الإيرانية التي يُزعم أن مقرها في «كردستان العراق»، الأمر الذي قد يعني شن عمل عسكري متكرر وأكثر قوة ضد «بيجاك» وجماعات أخرى في المناطق الجبلية الحدودية. ويمكن لهذه الإجراءات أن تستهدف تدريجياً قوات «إقليم كردستان العراق» أيضاً.
وبالمثل، أمضى اللواء محمد باقري، رئيس الأركان العامة للقوات المسلحة الإيرانية، الأشهر القليلة الماضية، محذراً من “العواقب الوخيمة” للاستفتاء. وفي آب/أغسطس، فاجأ باقري المراقبين إثر قيامه بزيارة لتركيا، واجتماعه مع الرئيس رجب طيب أردوغان ورئيس أركان جيشه الجنرال هولوسي أكار. وفي وقت لاحق تحدث مسؤولون من البلدين عن العمليات العسكرية المشتركة المحتملة ضد “الخطط الانفصالية” الكردية، ليس فقط على طول الحدود المشتركة لكلا البلدين [مع «إقليم كردستان العراق»]، بل أيضاً في سوريا والعراق.
وفي المرحلة القادمة، يمكن توقّع قيام إيران بإلقاء بثقلها وراء تهديد بغداد باستخدام القوة ضد الحملة الكردية من أجل الاستقلال، ربما من خلال تقديم المزيد من الأسلحة والقوات الخاصة للجيش العراقي والميليشيات الشيعية. ولكن من المرجح أن تدرك طهران أن أي شحنات من الأسلحة الثقيلة (مثل المدفعية ذات العيار الكبير وصواريخ “فاتح – 110″/”ذو الفقار”) إلى تلك الأطراف محظورة بموجب قرار مجلس الأمن رقم 2231، حتى إذا أعيد توجيهها عبر سوريا. وقد تحاول إيران أيضاً استغلال المنافسات الداخلية بين الأكراد من خلال استدراج فصائل معينة بعيداً عن حركة الاستقلال وتزويدها بالأسلحة وغيرها من أشكال الدعم.
وعلى المدى البعيد، يمكن أن تقرر إيران أو العراق أو تركيا مواجهة «إقليم كردستان العراق» غير الساحلي مع “منطقة جوية غير آمنة” أو منطقة حظر جوي أو حتى حصار جوي يمنع الرحلات الجوية الدولية من الهبوط في مطارات أربيل أو السليمانية أو كركوك. وبالنظر إلى العدد المحدود للطائرات المقاتلة في القواعد الجوية الإيرانية في الشمال الغربي من البلاد في تبريز وحمدان، من المرجح أن تقتصر مشاركة إيران في هذه الجهود على نشر أسلحة الدفاع الجوي في خطوط متقدمة مثل بطاريات صواريخ “S-300”. ويفتقر «إقليم كردستان العراق» لقوة جوية أو نظام دفاع جوي تتوفر فيهما قدرة عملياتية، كما لا تلتزم حالياً أي قوات جوية أجنبية بحماية «الإقليم»، لذلك تظل منشآته النفطية وبنيته التحتية العسكرية ضعيفة جداً. وفي الوقت نفسه، قد تكون إيران مقيّدة باحتمال أن تؤدي التوترات على حدودها الغربية والشمالية الغربية إلى التأثير على عبور الطائرات التجارية اليومية التي تزيد عن ألف رحلة يومياً في تلك المناطق، والتي تدفع لها شركات الطيران الدولية رسوماً إضافية كبيرة.
بالإضافة إلى ذلك، ولكي ينجح أي حصار، هناك حاجة إلى تعاون روسي. وقد كان موقف موسكو من استقلال الأكراد غامضاً على الرغم من علاقاتها الحميمة مع الدول التي لها حدود مع «إقليم كردستان العراق». ومؤخراً وقّعت شركة الطاقة الروسية “روزنيفت” اتفاقاً مع «إقليم كردستان العراق» لبناء خط أنابيب إلى تركيا، يسمح لها بإرسال ما يصل إلى 30 مليار متر مكعب من الغاز سنوياً لإشباع الطلب الأوروبي. وسيستفيد أيضاً سوق الغاز الكبير في تركيا من هذه المبادرة الجديدة. وبمساعدة الاستثمارات الروسية الكبرى، من المتوقع أن تنمو أيضاً صادرات النفط في «إقليم كردستان العراق» من مستواها الحالي البالغ حوالي 650 ألف برميل يومياً لتصل إلى مليون برميل. ويمكن لهذه العوامل الاقتصادية أن تعقّد إلى حد كبير أي خطط إيرانية لوضع ضغوط عسكرية على «إقليم كردستان العراق».
الخاتمة
من المحتمل أن ترى طهران أن استقلال «إقليم كردستان العراق» يشكل تھدیداً مباشراً لسیادتھا وأیدیولوجیتھا الثوریة، لذلك قد تبذل کل ما في وسعھا لمنع ھذه النتیجة. وبناء على ذلك، يجب على الولايات المتحدة أن تعد نفسها لحدوث تصعيد على طول حدود «إقليم كردستان العراق». ولكن يجب على واشنطن أن تدرك أيضاً أن استمرار المعارضة لحركة الاستقلال سيضعف من تأثيرها على الأكراد وربما يخلق المزيد من الفرص لروسيا.
ولن تكون طهران مُحصَّنة أيضاً ضد عواقب معارضتها [لمبادرة] «إقليم كردستان العراق». فإن أي محاولة إيرانية لعرقلة عملية الاستقلال الكردي بشكل فعال أو تزويد الجهات الفاعلة الأخرى بالأسلحة ستكون بمثابة هدية لإدارة ترامب، التي وضعت بالفعل نصب أعينها على الأنشطة الإقليمية الإيرانية. وحتى لو كانت طهران تحد من تدخلها في النفوذ التجاري، فستظل عرضة لأن تصبح عدواً مشتركاً للقضية الكردية. ويعتمد العديد من الأكراد الإيرانيين على التجارة عبر الحدود، لذلك يمكن أن تؤدي العقوبات الاقتصادية أو الحصار الذي يُفرض على «إقليم كردستان العراق» إلى مزيد من زعزعة الاستقرار والسخط في غرب إيران – وهي النتيجة نفسها التي تسعى طهران إلى تجنبها.
Laisser un commentaire