المدينة المقدّسة: كيف يمتلك الغرب زمام سرديّة تاريخنا ونحن في غفلتنا سادرون
ندى حطيط —
استعرت عنوان مقالي من الاسم الذي أُطلق على تحقيق رسمي مشهور أجرته حكومة دولة الاحتلال العبري بعد حرب أكتوبر / تشرين 1973 وأيضاً كتاب أصدره سبعة صحافيين شهدوا الحرب وانتهى كلاهما – التحقيق والكتاب – وقتها إلى اتهام مواقع مختلفة في حكومة غولدا مائير حينها بالتقصير باتخاذ الإجراءات اللازمة لإدارة الحرب مع مصر وسوريا، وهي التي شهدت منذ بدايتها تحقق اختراقات هامة للجيوش العربيّة وتسببت بخسائر فادحة في الأفراد والمعدات على الجانب الإسرائيلي. فكرة وجود تقصير شامل تسأل عنه الإدارة بمجموعها هي ما تبادرت إلى ذهني وأنا أشاهد عرضاً خاصاً للفيلم الوثائقي (المدينة المقدسّة) للباحث الكندي دان جيبسون (85 دقيقة – 2016).
الفيلم الذي أُنجز باللغة الإنكليزيّة وصورت معظم أجزائه جنوب الأردن يقّدم سرديّة متكاملة، مدعمة بوثائق أثريّة ومعدات وتقنيات متطورة تزعم أن مكة المكرمة – المدينة المقدسّة التي ظهر فيها الإسلام – لم تقع غرب الجزيرة العربيّة وإنما كانت في منطقة جنوب الأردن وتحديداً مدينة البتراء عاصمة العرب الأنباط القدماء. ويقدّم الوثائقي الذي يعرض هذه السرديّة النقيضة لكل ما تعارفت عليه المصادر الإسلاميّة لأكثر من ألف عام جيبسون بنفسه الذي يبني نظريته المزعومة هذه على أساس قراءة اتجاهات المحاريب وجدران القِبْلة في المساجد التي بناها المسلمون من وقت البعثة وحتى الفتنة الثانية وبداية العصر العباسي.
ويقول الرجل إنه استخدم أجهزة قياس حديثة ليجد أن تلك المساجد اتجهت نحو البتراء تحديداً – لا القدس -، وإن ذلك الأمر تغيّر بعد حوالي مائتي عام من البعثة، لتتجه كل المحاريب من العام 822 إلى مكة الجزيرة العربيّة التي نعرفها الآن.
وهو يفسّر غياب أي ذكر لموقع البتراء كبيت حرام بسياسة حرق الكتب والمصادر المكتوبة التي تسببت فيها حروب الفتنة في الإسلام، كما أن البتراء نفسها هجرت – وفق جيبسون – بعد زلزال هائل أصابها.
جيبسون الذي ينتمي لعائلة توارث أفرادها أباً عن جد الاهتمام المهووس بتاريخ منطقة سوريا الكبرى وفق نصوص الكتاب المقدس ولأسباب محض دينية يقول إنه قضى فعلا حوالي ثلاثة عقود يجول في الشرق الأوسط ويزور المواقع الأثريّة فيها قبل أن يتحفنا بنظريته كما في «المدينة المقدّسة».
خيال خطر يُعرض كحقيقة
بالطبع فإن جيبسون ليس مبدع تلك النظريّة التي وضعها بداية في كتاب نشره بالإنكليزيّة عن جغرافيّة القرآن – كما فيلمه الوثائقي – ولكنّه يصعد على أكتاف مجموعة من المؤرخين الغربيين المتأخرين (لعل أشهرهم الراحلة باتريشا كورونا) والذين بذلوا غاية جهدهم وأعمارهم تشكيكاً بالسرديّة العربيّة الإسلاميّة الكلاسيكيّة عن تاريخ الإسلام في عقوده الأولى منذ البعثة النبوية.
ومع أن النظريّة كما يقدمها جيبسون تبدو مفعمة بالخيال ولا تجد لها دعماً ليذكر من نصوص الفترة الرومانية البيزنطيّة على الرّغم من توفر عشرات المصادر في وثائق ورسائل ومخطوطات سجلت الكبير والصغير من وقائع الأيام وصراعات القبائل وحروب بيزنطة مع فارس في منطقة بلاد الشام خلال القرن السابع الميلادي دون أن تتطرق مطلقاً للحدث المحمدي أومرحلة صدر الإسلام، فإن خطورتها فائقة على الأمة العربيّة والإسلاميّة ليست بالتأكيد من باب طرح نظريّة تاريخيّة غير مدعمة وكأنها السرديّة التي تحل كل مصاعب التأريخ لتلك الفترة فتطيح بتراث عريض دون كبير تنقيب، إذ أن ذلك حق مكفول دائماً للعلماء والخبراء يتداولونه ويتدارسوه فيما بينهم بحثاً عن الحقائق الموضوعيّة إن توفرت.
لكن مكمن الخطورة هو في تعميم تلك النظريات التي لم تثبت بأي حال في أفلام وثائقيّة تصل إلى جمهور واسع غير متخصص في أغلبه، فتقنعه النظريّة – التي لم تثبت بعد – دون أن تتاح له كمتلقٍ فرصة الاستماع إلى نقد موزون لتلك النظريّة، أو على الأقل سرديّة نقيضة قريبة التناول كما هو الحال في فيلم «المدينة المقدّسة».
الليلة لا تشبه البارحة: سهولة الانتشار خطر داهم
الفيلم الوثائقي المذكور والذي أنتجته شركة غير معروفة لباحث يدعي أنه مؤرخ مستقل ليست له أية مرجعيّات أكاديميّة موثوقة وهو متوفر وبقدرة قادر كاملا على اليوتيوب ومواقع أخرى، بل وتوجد منه نسخ مترجمة إلى العربيّة والتركيّة والصينيّة والفرنسيّة والهنديّة، مما يجعله قابلاً للانتشار المتشظي عبر العالم لا سيّما بين شعوب مسلمة كثيرة قد لا تحسن العربيّة أو تمتلك أدنى اطلاع على جوانب الضعف الكثيرة في نظريّة جيبسون مع أن الفيلم يستقصد بوضوح عدم الإساءة إلى أساسيات الدين الإسلامي أوالنبي العربي صلى الله عليه وسلم، بل ويستعين في بعض مفاصله بنصوص من القرآن الكريم والكتاب المقدّس ليدعم ما يذهب إليه.
ولا شك أن ذلك يفتح باب الدهشة من أن يكون مثل هذا الانتشار نتاج عمل فردي حيث أنه يليق أكثر بمجهودات مؤسسات استخباراتية.
ليست كاريكارتورات دانماركيّة، هذه حرب عقول ..
ليس السبيل إلى مواجهة فيلم جيبسون الوثائقي وأمثاله الغضب المتعصب والتظاهر وتحطيم واجهات المحلات التجاريّة، فتلك همجيّات تخدم طرف جيبسون لا طرفنا. كما أن تجاهل الفيلم أو حتى منع عرضه لم يعد حلا فاعلاً بالنظر إلى الانتشار غير المسبوق لأدوات التكنولوجيا الحديثة والتي تسمح بعرض أي محتوى عبر العالم ولكل مهتم من خلال طرق متقاطعة تتنافس في سهولتها ورخص تكلفتها النسبي.
مواجهة المحتوى المنحاز لا تكون إلاّ بتقديم محتوىً بديل، يقدّم رواية موثوقة مضادة ربما أو على الأقل نقداً علميّاً متوازناً للمحتوى المعروض يتوفر على نسق يسهل للجمهور الوصول إليه لحظة تعرضه لفيلم من نوعيّة «المدينة المقدّسة»، ومن نافل القول أن تلك ليست بمسألة يمكن أن يقوم عليها أفراد، بل تحتاج ودون أدنى شك إلى تضامن مجهودات الحكومات والجامعات والمؤسسات الإعلامية ومنتجي الوثائقيات في إنتاج محتوىً مضاد، ضمن قوالب معاصرة، وبلغات العالم الحيّة. وثائقي بوثائقي، وكتاب بكتاب وحجة بحجة، فهذه حرب عقول يتفوق فيها الإقناع على الصوت العالي، والصورة على الجعجعة.
لم تعد الوثائقيات في عالم الإعلام الحديث مجرد ترفٍ جانبي يترك لملء فراغات البث بين الأعمال الدراميّة وبرامج تلفزيون الواقع وصباحيات الثرثرة المتنقلة بين العواصم. العمل الوثائقي راهنا صحافة من طراز جديد، وكتاب معرفة لجمهور ترك المطبوعات إلى الشاشات الملونة، وساحة جدل أيديولوجي تأخذها الأمم الجادة إلى أقصاها في محاولاتها لبناء سرديّاتها القوميّة وتخليدها والدّفاع عنها في وجه السرديّات المعادية.
التقصير: لا أستثني منكم أحدا
سيأتي أحدهم ويقول إن العرب معذورون اليوم إن هم تخلفوا عن خوض صراع الوثائقيات هذا، فهم في مواجهة غياب الاستقرار والمصاعب الاقتصاديّة والسياسيّة العميقة لديهم أولويات أخطر من مسألة تنازع السرديّات مع الغرب.
الحقيقة أن ذلك دفاع غير مقبول عن تقصير شامل. فالجامعات والتلفزيونات العربيّة في أغلبها – وفي قلب تلك المصاعب – تتوفر على ميزانيات هائلة تتوزع على إجراء أبحاث كثير منها ليس بذي بال أو يمتلك قيمة عمليّة، أوإنتاجات تلفزيونيّة باهتة تستعرض كل ما هو سخيف وفارغ في سجنٍ اسمه الرايتنغ أو (نسب المشاهدة).
هو قرار سيادي إذن لتوجيه هذه المؤسسات نحو إنفاق ولو جزء من وقتها وجهدها وميزانياتها في بناء واجهة متينة في عالم الوثائقيّات، ليس لكسب الأنصار والمتعاطفين أساساً، بل على الأقل للدّفاع عن أساسيات التكوين الأيديولوجي للأمة العربيّة والإسلاميّة ومنع الباحثين (المستقلين) من إطلاق مزاعمهم دون وجود من يتصدى لهم في فضائهم ذاته.
القدس العربي — إعلامية لبنانية تقيم في لندن
Laisser un commentaire