حول صعود عواصم في دنيا العرب، إلى أين نسير؟
بقلم: (محمد عمر غرس الله)
عرف التاريخ ومسيرته صعود عواصم في عالمنا العربي، فقد صعدت دمشق الأمويين وتبعتها بغداد العباسيين، وسرعان ما ظهرت القيروان ومراكش، ولاحقاً المهدية التي منها سار الركب لتصعد القاهرة، أما في عصرنا الحديث مع بدء تصفية الإستعمار كان لصعود القاهرة تاثير كبير من رحم إلتقاء العرب في أزهرها وجامعاتها، ثم في ثلاثة وعشرينها في يوليوها الكبير 1952، كان لهذا الصعود أدوات، وظروف، ومعاني وسمات وتأثير، واليوم أيضاً تشهد الأمة العربية صراع صعود العواصم المحير والمثير والصادم، حتى إن الدوحة وأبوظبي صارتا نداً للقاهرة ودمشق وطرابلس وتونس وصنعاء تأمرا فلا تجدا إلا الطاعة والإنصياع، أما الرياض فإنه يكفيها أن ترفع حاجبيها لتسارع عواصم التاريخ العربي صاغرة لطلب الرضى، كيف؟، ومالذي حدث؟، دعونا نرى
كان تاريخياً السيف والحملات والولاية هو ما يصنع مركز القرار، فيصنع لنفسه مشروعية كان أغلبها يمزج بين الدين ومشروعية الأسرة او القبيلة كما في صعود دمشق بني امية، وبغداد بني العباس وقيروان الأغالبة ومهدية الفاطميين، حتى قرطبة نفسها صعدت على وقع مشروعية عبدالرحمن الداخل الأموية بالسيف وحق الولاية.
اما حديثاً في مرحلة تصفية الإستعمار فقد لعبت القاهرة بصعودها العربي مركزاً مؤثراً في دنيا العرب، فالأزهر كان حاضنة العلم الشرعي وجامعاتها مقصداً لطلاب العلم وكانت مركزاً للفن والثقافة والنشر، و مع عبد الناصر صارت معقل العروبة ومكافحة الإستعمار في فلسطين واليمن وفي الجزائر، وصعد للقاهرة أخواتها في نفس المشروع دمشق وبغداد، وطرابلس في الفاتح من سبتمبر 1969،وشكلت بيروت حاضنة الفعل العروبي وصياغة المحتوى والنشر ولاحقاً المقاومة، كانت أدوات مشروع عواصم ذلك الزمن هي بعثات المعلمين والأطباء المصريين والعراقيين والسوريين والفلسطينيين، وعملاً إعلامياً في صوت العرب ومشروع القومية العربية الصادح بصوت عبد الناصر والإتحاد الإشتراكي، والناصريين وأشقائهم البعثيين والمدارس القومية وكانت الإشتراكية والعدالة الإجتماعية محتوى رسالتهم اجتماعياً واقتصادياً، ومقاومة الصهيونية والدعوة لتحرير فلسطين إفطارهم الصباحي، وعشاء لياليهم، وكانت إم كلثوم وعبد الحليم حافظ رسالة العاشق العربي لمعشوقته من روصو جنوب موريتانيا إلى تخوم مابعد النهرين في العراق، وكان أحمد سعيد يعزف على وجدان الشعور العربي بالتحرر في كل نوتة تحريرية يطلقها عبر الأثير العربي، بل إن إسم جمال وعبد الناصر ولاحقاً صدام والقذافي ومعمر وعرفات والأسد، وأسماء الفدائيين والفدائيات الفسطينيات واللبنانيات كسناء محيدلي وخالد محمد اكر، وميلود الناجح وقبلهم جميلة بوحيرد في الجزائر وغيرهم صارت من أسماء المواليد الجدد على الخريطة العربية، حتى الأًغنية العربية العاطفية والوطنية والقومية من « خلي السلاح صاحي » مرورا بإغاني « برع ياستعمار » من عدن، وصولاً الى « وين الملايين الشعب العربي وين » من ليبيا، والتي صنعت بمجملها وجدان الشباب العربي في مقاومة الهيمنة والإستعمار، التي صعدت مع عواصم السيادة الوطنية ومقاومة الهيمنة في التاريخ العربي الحديث.
دار الزمن العربي ودار، وقاطع العرب قاهرة » كامب ديفيد » وصعدت دمشق وبغداد وطرابلس والجزائر في « الصمود والتصدي » ولاحقاً إنشغلت بغداد بما أسمته وقتها حرب البوابة الشرقية، ورفضت دمشق وطرابلس تلك الحرب، بينما الجزائر فضلت الوساطة للحفاظ على وساطتها في إتفاق الجزائر بين إيران الشاه وعراق صدام حسين، ودخلت بغداد في أزمة الكويت، وطرابلس في نفق لوكربي، والقاهرة في سبات حسني مبارك، والجزائر في عشريتها السوداء.
وبشكل غير منظور عربياً للاسف، ظهرت وسائل الاتصال الحديثة وأطلت العولمة إبنة مركز المال المستأسد بسقوط وتفكك الإتحاد السوفييتي، وأطلقت دول الخليج الصاعدة بقوة والمتحالفة مع اللعبة الدولية ومركز المال في لندن وواشنطن- تطورها التنموي المثير على الأرض، وأطلقت من خلاله وبشكل بكتيري قنواتها الفضائية التي صارت تجذب المذيعين العرب والمراسلين من كل فج عربي عميق، تبث وتنتج البرامج في كل شي من أقصى العري إلى أقصى التشدد والإنغلاق وسيطرت على الإعلام الإخباري المبهر بالصورة والصوت الغير مسبوق تاريخياً وبحرفية عالية، وصعدت دبي كمركز تطور إقليمي للمال والإقتصاد عابر الحدود، والسياحة والإستثمار في كل شي، من اللحم الأبيض إلى كل عملات الدنيا الخضراء والصفراء والحمراء، وكل ما طبعت الأت العملات والذهب، وصارت مركزاً للتأثير كالمغناطيس الجديد، والحديث الذي أبهر بريقه المواطن العربي السياسي والمثقف والأكاديمي قبل مواطنه المسحوق بظروف الحياة، والحالم بمدن عصرية متطورة كما يرى على شاشات التلفاز بالمقارنة بواقع بائس صنعته أنظمة المتخشبة، أساطيل من أحدث الطائرات، مطارات ضخمة أسواق ضخمة، وعروض أزياء، تسهيلات الأموال وتنقلها، وموديلات الملابس، تجارة عابرة شحن حاويات، إلكترونيات، عبايات مبهرة حالكة السواد، قمصان حريرية، مصاحف مذهبة، مساجد حديثة، وطرق عريضة، وعقالات بيضاء مبهرة، وسيارات تويوتا رباعية الدفع مكيفة عالية، وإنتشر في الفضاء الوعض من قنوات المد الوهابي السلفي، وظهر قادة جدد للراي العام أنواع واشكال من لكنات الخليج والمتشبهين بهم، ومسابقات حفظ القران الكريم والهدايا المجزية، وصالات حفلات، وأراب أيدول، ومسابقات فناني العرب مع صرخات المراهقات في مدرجات البرامج الليلية، ومسلسلات الحب باللكنة الخليجية، وإنتشرت ثقافة البوتكس والمكياج الصارخ، وإنتشر في دنيا العرب وجبة الكبسة وصار العرب جميعا يرطنون اللهجة الخليجية بالقول « صح لساااانك » في اقصى قرى العرب حتى عمق الصحراء الكبرى ووسط الريف المغربي والدمشقي، ورياضة الصقور والصيد ومسابقات بيع الماعز وعروض جمال « التيوس »، وصار العريفي نجماً في أمة العرب يأمر فيطاع، ويال الغرابة يخطب حتى في الأزهر الشريف، واللحيدان والعودة والقرضاوي والمدخلي يجييش عشرات الألاف ليقاتلوا حيث يريد قسم الفتاوي في المخابرات السعودية من إفغانستان الى ليبيا الى سوريا، اما لكنة السديسي فصارت تقليداً لكل من يريد أن يقول للناس إنه متدين، وصارت الغثرة السعودية دليلاً عن الإلتزام الديني والقميص السعودي دليل أناقة للشباب في قرى ليبيا وتونس والجزائر والمغرب وحتى سوريا والعراق، أما النقاب والسواد الحالك فقد قضى على موروث مجتمعات بأكملها في تونس وليبيا، وحتى لبنان وريف سوريا الأناقة لم يسلم من التاثير المتصاعد، حتى القاهرة العريقة ومراكش الأصالة فقدوا تنوعهم العربي الحضاري أمام تسونامي الموضات الخليجية في كل شيء تقريباً، اما اليمن فقد قضت المعاهد العلمية الممولة وهابياً ولاحقاً القنوات الخليجية على سماحة وتعايش تدين الشوافع والزيدية فيها وإندثر تقريباً التسامح المجتمعي العريق المتجذر، وإندثر الزي اليمني الجميل لنساء وعذراوات اليمن السعيد.
صار سياسياً المثال هو مايقوله وزير خارجية الرياض، وما تامر به الدوحة وقرضاويها وعزمي بشارتها القادم من الكينيست الإسرائلي، حتى إن تعبير الحرية عربياً صار الإشهر على لسان ال ثاني والقرضاوي في الدوحة، أما أبو ظبي فهي لا تقول بل تفعل بقصف ليبيا بطائراتها بصحبة الناتو، وترسل الطائرات محملة بالأسلحة إلى المطارات المحلية في سوريا وليبيا وتمول الجماعات، أيضاً المثقفين والأكاديميين والمحللين السياسيين صاروا يتسابقون على مراكز البحث في دول الخليج لحضور الندوات والعمل في الجامعات الحديثة ومراكز البحث، والظهور على شاشات القنوات الفضائية المبهرة للغاية، وصارت الدوحة تتدخل تقريباً في خلاف الأزواج في أزقة العواصم العربية التاريخية، تدفع لهذا ولذاك، لكل الخصوم والمتقاتلين المحليين وحتى عصابات الحارات العربية، وتعطيهم جميعا السلاح والمال، وتلتقيهم في الدوحة لعقد إتفاقات وقف إطلاق النار، حتى بين القبائل كما حدث بين التبو والتوارق في أوباري بجنوب ليبيا وفي السودان، وصار وزير خارجية قطر يضيق على دول عربية كبرى كالجزائر ومصر وسوريا والعراق وليبيا واليمن، أما سوريا فان الجبير وزير خارجية الرياض اراد ان يعين للسوريين من يفتح لهم ماسورة المياه كل صباح.
لم يعد الإستعمار والتنمية المحلية، ولا الوحدة العربية والتضامن العربي، ولا العدالة الإجتماعية هو مشروع عواصم الصعود العربي، بل صارت معارك القتل والتكفير بين إخوة البيت الواحد هي لغة التدين الجديد والديموقراطية الخليجية عبر تسونامي الاخوان المسلمين والوهابية، وفتاويها، وأذرعها، وقنواتها الفضائية الدينية، والإخبارية بين الجزيرة والعربية واخواتهما، وصار بذلك قصف طرابلس وتشريد الليبين هو المشروع، وهو التدين الحقيقي والتضامن العربي الجديد الذي يُكَبر له العرب « الله أكبر » على أنغام اصوات وقذائف طائرات حلف الناتو، ومعزوفات تلفزيونات عواصم العرب الجديدة، وصار نشر الخراب والحرب في سوريا وتدمير اليمن وقصفه، وفرض رئيس على اليمنيين بالقوة، وإخراج رئيس من سوريا بالقوة، وقتل الرئيس في ليبيا هو الفعل المحق والضروري والمشروع والتدين ولا مجال للمناقشة، أما ليبيا صار سحقها، وجعلها مرتعاً للارهاب هو المفروض على الليبيين الذين كانوا من أكثر المنبهرين بسذاجة غامرة غريبة عجيبة بصعود عواصم العصر العربي الجديد، التي تفرض، وتتحكم حتى في طريقة فهم بقية العرب لخصوماتها البينية، فينقسم العرب على إنقسامها ويتوزعوا على ضفافها كما يحدث هذه الإيام بين الرياض وأبوظبي من جهة، والدوحة من جهة اخرى، بينما لا يعبأ احد بما يفعلونه جميعا باليمن والشعب اليمني من ماساة، ولا ماذا حل بليبيا وسوريا من جراء سياستهم جميعا طوال سبع سنوات عربية عجاف.
إنه صعود عواصم وهبوط عواصم عربية اخرى، له دلالاته وتأثيره ومعناه، وله سماته وأدواته ومصطلحاته، وأسبابه العميقة التي تحتاج منا البحث والدراسة والفهم وليس فقط مجرد الملاحظة أو النقد او الحكم سلباً او إيجابنا، الذي لا يفيدنا في شيء، فالخليجيين اخوتنا وأهلنا الأعزاء نسعد ونفرح لتطورهم التنموي، ونتألم لما يصيبهم ونعادي من يعاديهم او يهددهم، وبالمقابل لأنهم يتصدرون المشهد العربي لابد لنا أن ننتقد ونُقيم مشروعهم الذي يستبيحون به الإمة وفقرائها ويقسموننا بينهم، إنها ظاهرة عربية بإمتياز لابد من دراستها وقرائتها ومعرفة أسبابها العميقة، ومعرفة أدواتها من وسائل اعلام ودعاية ومركز مال، وأخوان ووهابية سلفية وجماعات إسلاموية بأنواعها التي إجتاحت الإسلام الوطني لبلداننا وجرفته وأجهزت عليه، أين الإيجابي فيها وأين السلبي؟ وأين كان ولايزال الخلل العربي الكبير في أن تتراجع عواصم التاريخ العربي العريق، لتصعد عواصم جديدة وحديثة جداً على سطح الفعل العربي، حتى صارت دول عتيدة بتاريخها العربي صامتة منزوية، وأًخرى مجرد أدوات مأمورة في أيدي العواصم الجديدة، و أًخرى صارت محابية تتقي غضبة هذه العواصم الجديدة وتخطب ودها وتسايرها وتضحك لها ضحكته الصفراء والمعبرة عن الخيبة والرضوخ بل والاتقاء، إنه صعود مركز المال والإعلام وصعود الوعض ومركز الفتوى في أقسام المخابرات، والعمل مع اللعبة الدولية والتحالف مع مشاريعها، والرضوخ للنهب بمئات المليارات، رغم حاجة فقراء الإًمة لمدرسة ومستوصف وطريق وبيوت لحياة كريمة يمكن أن تصنعها بضع مليارات كان يجب أن تتكفل بها عواصم الفعل العربي الجديدة بدلاً من القصف والتدمير وتمويل الجماعات المسلحة، وبدلاً من سيول الفتاوي ونشر التكفير والقتل داخل المجتمعات العربية المسلمة الوسطية.
تلكم أًحجة صعود العواصم وتواري أخرى التي لابد من بحثها لنعرف أزمتنا العربية كيف بدأت؟ وكيف سارت؟ وإلى أين تذهب بنا تحديداً؟،وكيف يمكن ان تكون اكثر ايجابية إذا ما تم تقييم المسيرة ونتائجها بموضوعية؟
والله من وراء القصد
Laisser un commentaire