الى بعض المراهنين : حلم توراتي بإعادة احتلال لبنان
Spread the love
دعا كبير حاخامي الحاسيديم يتسحاق غنزنبورغ، إلى « استيطان لبنان » قائلًا: « لبنان جزء من أرض الكيان الصهيوني الممنوحة لبني إسرائيل حتى نهر الفرات »، مدعياً أنه « حان الوقت لغزو لبنان واستيطانه ويجب ضرب العدو بكل قوة وفق الشريعة اليهودية ». تصريحات الحاخام جاءت تعبيرًا عن حالة انتشاء باستهداف سماحة السيد حسن نصر الله، ما أدى لاستشهاده، معتبرًا أن الميدان قد خلا الآن أمام الكيان الصهيوني لاتخاذ « قرار استراتيجي في حلم الاستيطان، وهو الاستمرار في سحق جنوب لبنان وعدم السماح لسكانه بالعودة ». مع دعمٍ متزايد للاستيطان في لبنان من قبل كلٍ من عضو الكنيست السابق موشيه فيغلين، وأميد كوهين من مركز حيروت، بينما يتزايد الإيمان الصهيوني بالمزيد من الدعم مستقبلًا، وإمكانية تطبيق حلمها على غرار الاستيطان في الجولان الذي بدأ باستيلاء على مئات القرى السورية هناك، لينتهي بضمٍ كامل حظي باعتراف الولايات المتحدة مع وصول ترامب للحكم. وبينما تزداد شهية التوسع والاستيطان الإسرائيلي جنوبًا في قطاع غزة، وشمالًا نحو لبنان، وشرقًا نحو الأردن التي يُجاهر الوزراء الصهاينة وعلى رأسهم سموتريتش بأهمية ضمها باعتبارها جزءًا من « دولتهم »، تبقى المقاومة المستمرة هي آخر ما بقي لمواجهة الابتلاع والقضم. وبينما تستعيد المقاومة عافيتها، وتتوحد صفوفها فيما تتزايد ضرباتها في عمق الكينونة العسكرية والسياسية والاجتماعية والجغرافية الصهيونية، تتراجع أولوية أحلام اليقظة من « الاستيطان في لبنان »، إلى الغرق في وحل الخيام والجنوب اللبناني عسكريًا، والهرولة سياسيًا واجتماعيًا تحت صواريخ المقاومة واللهاث وراء طائراتها المسيرة
أن آيات التوراة تحمل رسائل عميقة من الممكن الاستفادة منها في الحياة اليومية وفي الأحداث الجارية، وأنه ربما تكون رؤية الحاخام اليهودي شاي تاهان قادرة على فتح الأبواب لفهم رسائل التوراة المتجاوزة للتاريخ بشكل أفضل. وبحسب رؤية الحاخام فإن الصراع الأخير في لبنان يثير التساؤل المتجدد حول أين ينبغي أن تقع الحدود الشمالية لأرض الكيان الصهيوني دينيًّا، وهل إسرائيل ملزمة بغزو المناطق التي يتضمنها الوعد الإلهي لإسرائيل أم أن تلك المناطق تعد خارج حدود إسرائيل؟ يستشهد الحاخام بآيات التوراة وبآراء رجال الدين التي تؤكد أن لبنان يقع ضمن حدود إسرائيل وأن الإسرائيليين ملزمون دينيًّا بغزو لبنان. مارك فيش، يتبع حركة دينية اجتماعية إسرائيلية تُدعى « شوفا إسرائيل »، ويضيف في نهاية كل مقالاته سطرًا يشير إلى أنها تُكتب بالتعاون مع حركة شوفا إسرائيل. تأسست الحركة عام 1997، على يد حاخام يُدعى يوشياو يوسف بينتو، وهو حفيد يعقوب أبو حصيرة، الحاخام اليهودي المغربي الذي هاجر من المغرب وقضى ودُفن بالقرب من مدينة دمنهور المصرية في ثمانينيات القرن التاسع عشر، ولا يزال يُقام له « مولد سنوي » للاحتفال به. ويُعد بينتو هذا من أكثر الحاخامات غموضًا، وثراء، وإثارة للجدل في الكيان الصهيوني . ورغم القضية التي أدت به إلى السجن عامًا في إسرائيل بتهمة رشوة ضابط، يتّبِع بينتو مجموعة كبيرة من رجال الأعمال وكبار مطوري العقارات والساسة في إسرائيل والولايات المتحدة ويحمل شعبية واسعة بينهم. يؤكد المقال المحذوف أن فكرة إسرائيل الكبرى أصبحت أكثر حضورًا خلال السنوات الأخيرة، وأنها كثيرًا ما تُناقش على المستوى السياسي والديني. وتتلخص هذه الفكرة في أن أرض إسرائيل الموعودة تمتد من نهر مصر إلى الفرات. ولا يتوقف الحاخام عند هذا الحد فهو يناقش قضايا فقهية حول كيف سيتم التعامل مع الأراضي الزراعية في تلك الأراضي التوراتية التي منحها الرب لإسرائيل بالحق الإلهي في حال غزوها، ثم يختم مقاله بالقول: « إذا نظر المرء إلى الخريطة، فسيُدهش من مدى امتداد نهر الفرات شمالًا ومدى اتساع أرض إسرائيل الحقيقية. وعلى الرغم من أننا قد لا نستطيع استعادة كل هذه الأراضي في عصرنا الحالي، فإن الرب سيعيدها إلينا قريبًا، بلا شك ». فما الذي ينتظره يمينيو إسرائيل عما قريب؟
بحسب الصحيفة الإسرائيلية هآرتس، فقد صرح مؤخرًا ينون ماجال، الصحافي الإسرائيلي وعضو الكنيست الإسرائيلي السابق الذي وُجِّهت إليه في الماضي القريب اتهامات بالتحرش الجنسي، في برنامجه الإذاعي اليومي على محطة 103 إف إم؛ بـ »أن المسيح وحده هو الذي يمكن أن يحل محل نتنياهو ». وقد أصبح هذا التصور بأن المسيح قادم قريبًا جدًّا وأن الحرب الحالية ممهدة لظهوره يكتسب شعبية كبيرة داخل إسرائيل وفي الأوساط الحاكمة، ومعه بدأ ما يسمى بالوعود التوراتية يتخذ زخمًا أكبر وتأويلًا يجعل تلك الوعود مبشِّرة بالاستيلاء على أراض عربية جديدة في مقدمتها لبنان. ربما يظن البعض أن الاحتلال الإسرائيلي يكتفي في تأويله الديني بحقه الإلهي في الاستيلاء على الأراضي الفلسطينية فقط، لكن الواقع أن المنطقة التي يعتقد المتطرفون أنها من حقهم تشمل أراضي عربية أخرى واسعة. ومع تصاعد النشوة الدينية في الآونة الأخيرة بسيطرة تيار أقصى اليمين المتطرف عليها، وازديادها جراء الإنجازات التكتيكية التي حققتها إسرائيل بتنفيذ تفجيرات أجهزة النداء واللاسلكي (البيجر) في لبنان، ومرورًا باغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) الشهيد إسماعيل هنية في طهران، وليس انتهاء باغتيال عدد من قادة المقاومة اللبنانية بمن فيهم الأمين العام لحزب الله الشهيد حسن نصر الله.ترافقت كل هذه الأحداث لتؤشر لدى المتطرفين في إسرائيل إلى أن دولتهم ربما تشهر ورقة الوعد التوراتي والحق الإلهي بالاستيلاء على لبنان قريبًا، في وقت لا يزال فيه رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو يجرّ إسرائيل إلى نشوة نهاية العالم بغض النظر عن العواقب، من أجل تحقيق نبوءات أقصى اليمين الديني والاستيلاء على جميع الأراضي التي يبشر بها اليمين ورجاله، ومن ثم يستبدل النظام الديمقراطي الإسرائيلي بمملكة بيت داود، ويبني الهيكل الثالث.
في 12 يوليو/تموز من عام 2006، وبينما كانت إسرائيل تصر على إبقاء المختطفين المعتقلين اللبنانيين لديها قام « حزب الله » اللبناني بعملية مقاومة مباغتة أسر خلالها جنديين من جيش الاحتلال وعاد بهما إلى لبنان وأعلن أن الهدف الرئيسي من العملية هو التفاوض وتحرير الأسرى اللبنانيين عبر التبادل. لكن إسرائيل بدلًا من أن تراجع تعنتها في إبقاء الأسرى اللبنانيين لديها، شنّت حربًا على لبنان قتلت فيها مئات اللبنانيين أغلبيتهم العظمى من المدنيين، وجرحت 1109 آخرين، وشردت حوالي مليون شخص، بحسب مؤسسة هيومن رايتس ووتش. كانت أفكار الاستيلاء على لبنان واستيطانه قد ظهرت بوضوح داخل تيار أقصى اليمين في الكيان الصهيوني في غزو لبنان عام 1982، إذ تبنت حركة غوش إيمونيم حينها هذا الأمر وهي الحركة التي عملت بنشاط ملحوظ وتأييد واضح من السياسيين والجنرالات النافذين فيما بين عامي 1974 و1988، وقد أدّت دورًا بارزًا في التوسع الاستيطاني اليهودي في الضفة الغربية وقطاع غزة.فقد كانت ترى ضرورة الاستيطان في كل موقع من أرض إسرائيل الموعودة حتى لا يتم الاستيلاء عليها من الغرباء (العرب)، ومن ثم كانت تلك الحركة أيضًا تدعو في ثمانينيات القرن العشرين إلى فكرة الاستيلاء على لبنان والعودة إلى وطن قبيلة أشير ثامن أبناء النبي يعقوب بحسب العقيدة اليهودية. »درس التاريخ واضح: كل محاولة لإقامة مملكة الله على الأرض محكوم عليها بألا تشعل أولى نيرانها إلا في مسكن الإنسان ». وفي مقال للبروفيسور يوؤال إليتزور في عام 2015 أي قبل الحرب الدائرة الآن بسنوات -وهو باحث ومحاضر في اللغة العبرية واللغات السامية وما يسمى « جغرافيا الكتاب المقدس » بالجامعة العبرية في القدس وهي جامعة ممولة من إسرائيليا – يقول الأكاديمي بوضوح إن لبنان جزء من الأرض التي وعد الله بها شعب إسرائيل، ويحكي إليتزور كيف أنه « حين كان جندي مشاة في حرب لبنان الأولى عام 1982 انبهر بالمناظر الطبيعية الخلابة في لبنان، وتذكر شوق موسى في العهد القديم لرؤية لبنان ». وينتقد البروفيسور بشدة اليمين الإسرائيلي الذي لم يفكر بعد بجدية في الارتباط اليهودي بلبنان وأن هذه الأرض هي أرض لشعب إسرائيل. لكن هذا ليس في إسرائيل فحسب. فأثناء حرب لبنان الثانية التي تُعرف باسم حرب تموز، وعلى الجانب الآخر من العالم، وتحديدًا في الولايات المتحدة الأميركية، كان جون هاغي، القس البروتستانتي الإنجيلي يخبر الملايين من أتباعه أن قصف إسرائيل الدموي للبنان هو « معجزة من الله
جون هاغي الذي يرأس منظمة « مسيحيون متحدون من أجل إسرائيل » التي يبلغ عدد أعضائها 10 ملايين عضو بحسب تقديرات عام 2022، والتي تعد من أكثر المؤسسات تأثيرًا في السياسة الأميركية، ومن أهم حلفاء الكيان الصهيوني في الولايات المتحدة. كان هاغي قد صرح مؤخرًا عام 2024 بأن الدولة الموعودة لإسرائيل في العهد القديم لا تشمل فقط فلسطين وإنما تمتد أيضًا لتغطي كل لبنان وكل سوريا وكل الكويت وكل الأردن وخمس مساحة مصر وثلاثة أرباع مساحة المملكة العربية السعودية. لا يمكن النظر إلى تفسيرات النافذين من جماعات الضغط البروتستانتية الغربية لما يسمى بوعود العهد القديم، ببسا فهذه التفسيرات الدينية قد أدّت دورًا كبيرًا في تشكيل إسرائيل منذ البداية، وبحسب الكثير من المؤرخين ومنهم المفكر الإسرائيلي الشهير، الأستاذ بكلية العلوم الاجتماعية والدراسات الدولية بجامعة إكسيتر بالمملكة المتحدة إيلان بابيه، ففكرة إقامة الدولة الإسرائيلية على أنقاض الأراضي الفلسطينية قد خرجت منذ البداية كحلم مسيحي إنجيلي قبل أن تتحول إلى حلم يهودي تلقفته بعض النخب اليهودية التي نظّرت لتأسيس الدولة عبر احتلال الأرض، وذلك تأثرًا بالتنظير المسيحي الإنجيلي.
يوضح الفيلسوف الأمريكي الذائع الصيت نعوم تشومسكي الأمر أكثر إذ يقول إن المسيحية الصهيونية لطالما تمتعت بنفوذ سياسي كبير داخل أوروبا والولايات المتحدة الأميركية بعد ذلك. فتلك النخب هي التي ضغطت في بريطانيا من أجل استصدار وعد بلفور، وهي التي أدّت الدور الأكبر دائمًا في دفع الولايات المتحدة باتجاه الدعم الكامل لإسرائيل. بالنسبة للمسيحية الصهيونية فإن استيلاء إسرائيل على عدة أراض عربية هو تحقيق لوعد العهد القديم، والمفارقة أن دافعهم لتمكين إسرائيل من الأراضي المحتلة وتوسعها، هو اعتقادهم الديني بأن هذا التوسع سيعقبه مجيء المسيح ومن ثم سيتحول اليهود إلى المسيحية حينها. في حين أن إسرائيل -التي تعتقد أن توسعها سيعقبه ظهور المسيح الحقيقي وليس المسيح الذي يؤمن به المسيحيون من وجهة نظرهم- تجد في هؤلاء المسيحيين الإنجيليين أفضل داعم سياسي لها على الرغم من التناقض التام في المآل الذي ينتهي إليه اعتقاد كل طرف منهما. وبحسب السفير السابق لإسرائيل في واشنطن رون ديرمر فإن المسيحيين الإنجيليين هم أهم داعمي إسرائيل في الولايات المتحدة وليس اليهود لأن بعض اليهود يتخذون خطًّا منتقدًا للغاية لإقامة إسرائيل، وقد صرح نتنياهو في عام 2017 بأن مؤسسة القس جون هاغي هي أقرب حليف لهم داخل الولايات المتحدة الأميركية. تختلف التصورات عن نهاية التاريخ بين الطرفين، لكنها تتلاقي في الرغبة العارمة في الاستيلاء على الأراضي العربية للتمهيد لظهور المسيح، ويبقى العهد القديم جاهزًا بالنسبة للدعاة الدينيين سواء الصهاينة أو المسيحيين الإنجيليين لكي يعيدوا تأويله بشكل يتناسب مع توسع كيانهم في مساحة جديدة. فكما أعادوا تفسير آية في سفر التكوين في العهد القديم موجهة إلى النبي إبراهيم تقول « سأبارك أولئك الذين يباركونك، ومن يلعنك سألعنه »، ليجعلوها وفق تفسيرهم وعيدًا من الرب لأي شخص يجرؤ على انتقاد دولة إسرائيل (باعتبار أن إسرائيل من وجهة نظرهم قد حلت محل إبراهيم). فهم أيضًا جاهزون لتأويل المزيد من الآيات على نحو يجعل الاستيلاء على بقاع عربية جديدة وفي مقدمتها أرض لبنان، وعدًا دينيًّا حان الوقت لحصاده.
منذ منتصف الخمسينيات كانت إسرائيل تطمح بشدة من ناحية سياسية واقعية بحتة إلى تقسيم لبنان وإيجاد دولة مسيحية داخله تدين بالولاء لإسرائيل وقد أرسل ديفيد بن غوريون وهو أول رئيس وزراء إسرائيلي في فبراير/شباط من عام 1954 إلى وزير الخارجية الإسرائيلي موشيه شاريت يوجهه ناحية محاولة إنشاء جيب مسيحي متمرد داخل لبنانإذ كانت الفكرة هي إيجاد جيوب من الأقليات الدينية داخل العالم العربي تكون حالتها مشابهة لحالة إسرائيل، لكن خطة بن غوريون لم تنجح بل تحول لبنان بعد ذلك إلى معقل شديد الأهمية للمقاومة الفلسطينية ومن بعدها المقاومة اللبنانية ضد جيش الاحتلالوفي نفس الوقت ظلت قدرة اليمين الديني في إسرائيل حاضرة ومتنامية وقادرة على إعادة تفسير آيات العهد القديم بشكل يجعلها وكأنها تحث على الاستيلاء على لبنان.
وبحسب المحاضر والأكاديمي في « جغرافية الأراضي المقدسة »، فإن هناك نوعين من الحدود لأرض إسرائيل الموعودة، فهناك الحدود الأولية التي تمثل نواة لأرض إسرائيل. وهذه الحدود مخصصة للمراحل الأولى من الغزو الصهيوني، وهناك حدود أخرى شاسعة تمتد حتى الفرات وهي الحدود التي ينبغي على الأجيال الجديدة من الإسرائيليين أن تستولي عليها حين يزداد عدد السكان. لكن إليتزور يقول إن لبنان يعتبر جزءًا من الأراضي التي ينبغي أن تشكل حدود النواة الأساسية لدولة إسرائيل بحسب الوعد التوراتي. من هذا المنطلق يذهب الرجل إلى القول بأن فشل إسرائيل السابق في حروبها على لبنان كان نابعًا من أن الحكومة لا تفهم حقيقة أن لبنان جزء من إسرائيل ومن الأراضي اليهودية؛ ولذلك فهي تنظر إليها باعتبارها أرضًا غريبة. ويحكي أنه حين كان جنديًّا من جنود المشاة الذين تقدموا على طول وادي البقاع استولى هو وزملاؤه على حبات تين لذيذة من الأرض، ولكنه قرر أن يقرأ على التِّين الدعاء الذي يُقرأ على الأطعمة المنتمية لأرض إسرائيل وليس الدعاء الذي يقرأ عند الإمساك بالأطعمة الأجنبية، فتين لبنان بالنسبة له فاكهته المستحقة. حتى عام 2024 ظل الحلم التوراتي الذي يحمله بعض المنتمين لأقصى اليمين الديني بالسيطرة على لبنان مسألة لا تناقش إلا نادرًا على السطح الصهيوني، ولا يعتنقها الكثيرون حتى الآن.ولكن كما ينبه الصحافي الإسرائيلي أنشيل فايفر في مقاله بهآرتس في يونيو/حزيران الماضي فإن المؤمنين قبل خمسين عامًا بالاستيطان في الضفة الغربية كانوا أيضًا قلة قليلة في البداية لكنهم بحكم نفوذهم قد حولوا أحلامهم إلى واقع اجتماعي سياسي ديني ضخم. إذ أثبتت الأيام أن طموحات أقصى اليمين هناك سرعان ما تتحول إلى واقع حتى لو لم يؤمن بها في البداية إلا قلة. وبعيدًا عما يقوله فايفر، ففي الأيام الأخيرة ترافقت مؤشرات عدة تنذر بالخطر بأن الوعد التوراتي بالاستيلاء على لبنان واستيطانها قد يتم ترويجه وتفعيله.
« ستفرح البرية والبادية، ويبتهج القفر ويزهر كالنرجس ويبتهج ويرنم طربًا. مجد لبنان أُعطي له… شدوا الأيدي المسترخية وثبتوا الركب المرتجفة. قولوا لخائفي القلوب: تشددوا لا تخافوا. هوذا إلهكم. الانتقام قادم ». *سفر إشعيا، الفصل الخامس والثلاثون. وعودة إلى المقال الذي نشرته ثم حذفته صحيفة جيروزالم بوست، إذ لم تكن تلك حادثة استثنائية. نشرت بعدها مباشرًة وسائل الإعلام الإسرائيلية ومن بينها جيروزاليم بوست خطاب الحاخام إسحاق جينسبيرج الذي يدعو إلى غزو لبنان والاستيطان في جنوبها. أكد الحاخام -وهو رئيس مدرسة يشيفا أود يوسف حاي المتطرفة في مستوطنة يتسهار بالضفة الغربية، وأحد حاخامات الكابالا المرموقين- أن لبنان جزء من الأرض التي أعطاها الله للشعب اليهودي والتي تمتد حتى نهر الفرات. والآن « قد منح الله الجيل الإسرائيلي الحالي القدرة على أن يتلقى الهدية مرة أخرى ويغزو الأرض ويستوطنها »، وفق تعبيره. وبحسب جيروزاليم بوست فإن حاخامات آخرين صاروا يرددون نفس النغمة ويقولون إن الانتصار على لبنان سيرسم طريقًا جديدًا لقدوم المسيح. على جانب آخر كان البروفيسور عاموس عزرايا وبعض رجال الدين والحاخامات ينظمون مؤتمرًا لحركتهم التي تنتمي لتيار أقصى اليمين المسماة « أوري تسافون » يناقشون فيه سبل الاستيطان الناجحة في لبنان. ورمز تلك الحركة هو إسرائيل سوكول، جندي جيش الاحتلال الذي قتل أثناء تأدية مهامه في حرب الإبادة في قطاع غزة بداية عام 2024، وهو الشاب الذي كان يحلم بأن يستوطن لبنان وأن يعيش في ذلك البلد الأخضر في الصيف والأبيض في الشتاء، ومهمة الحركة هي إحياء حلم القتيل الراحل. وبالطبع تحدثت الحركة في مؤتمرها الذي لم يستمع إليه الكثيرون عن « الوعد الإلهي التوراتي بالسيطرة على لبنان »، وعن أن « لبنان دولة فاشلة منذ ولادتها، ولا بد لإسرائيل أن تأمل حدودًا أخرى متسعة لها على أنقاض تلك الدولة الفاشلة ». وقد حضر هذا المؤتمر هاغي بن أرتزي، المعروف بـ »الأخ الأكبر لسارة نتنياهو » بحسب صحيفة هآرتس الإسرائيلية، وقد قال « نحن لسنا متطرفين ولن نطالب بمتر واحد بعد الفرات ». بينما انتقد الرئيس التنفيذي لصندوق تيكفاه المتطرف عمياد كوهين، وهو منظمة غير ربحية في مدينة نيويورك تصف نفسها على موقعها في الإنترنت بأنها صهيونيةٌ سياسيًّا، وموجّهة نحو السوق الحرة اقتصاديًّا، وتقليدية ثقافيًّا، ومنفتحة لاهوتيًّا، وكوهين هو ضابط في قوات جيش الاحتلال أيضًا، انتقد جنرالات جيش الاحتلال لأنهم بحسبه لا يتحدثون عن الاستيلاء على الأراضي كهدف رئيسي للحرب. وفي بداية هذا الصيف كان وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش، قد دعا صراحةً إلى احتلال جنوب لبنان إذا استمر حزب الله في مساندة المقاومة في قطاع غزة. ويشير تقرير لهآرتس في هذا الصدد إلى أنه « ينبغي الانتباه لأن الأوهام الدينية في إسرائيل عادة ما تتحول سريعًا إلى سياسة الدولة »، وقد لوحظ مؤخرًا بحسب الصحيفة الإسرائيلية عقد استطلاعات للرأي تدفع سكان الأراضي المحتلة إلى التفكير في احتلال لبنان، إذ شملت تلك الاستطلاعات السؤال عن مدى تأييد فكرة إنشاء مستوطنات في لبنان. لا يمكن أن نقرأ كل تلك المشاهد بمعزل عن حقيقة النشوة الدينية والتفكير الرؤيوي التي تعيشها إسرائيل في الفترة الأخيرة،
الاعتقاد السائد بين رجال الدين والنخب السياسية اليمينية بأنهم يعيشون في زمن المعجزات وأن المسيح ينتظر على الأبواب وأن الحرب ضد حركة المقاومة الإسلامية (حماس) هي حرب يأجوج ومأجوج التي حدثتهم عنها الموروثات الدينية. فمشاهير الحاخامات على يوتيوب يقنعون جماهيرهم العريضة بأن الحرب الحالية هي آخر حرب قبل مجيء المسيح. بل إن هذا الخطاب وتلك الروح قد انتقلا إلى القنوات التلفزيونية الإسرائيلية ومقدمي البرامج فيها مثل دانا فارون المذيعة بالقناة 14 التي قالت بحسب هآرتس « مكتوب في المشناه أنه سيتم تدمير الجليل وإخلاء الجولان، وسيتجول سكان الحدود من مدينة إلى أخرى، إن هذه هي المشناه تتحقق بنا حرفيًّا، أنا سعيدة بهذا ». بينما يقول الإعلامي اليميني يانون ماجال بحسب هآرتس « إننا مقبلون على أيام عظيمة حقًّا، ووحده المسيح هو من يمكن أن يحل محل نتنياهو ». بحسب صحيفة هآرتس فإن تلك النشوة الدينية التي تعيشها إسرائيل ليست جديدة، إذ كانت دائمًا تمثل بحسبها القوة الدافعة لمشروع الاستيطان ورؤية إسرائيل الكبرى. لكن الجديد هو حجم الشعبية التي تتمتع بها أفكار التوسع وتعجيل نهاية التاريخ وقدوم المسيح في الخطاب السياسي وفي الشارع في الوقت الحاضر، إذ انتقل مثل هذا النوع من التفكير من هوامش السياسة اليمينية إلى مركز الحكم في حزب الليكود. والحقيقة أن هذا الاستدعاء للنصوص الدينية ليس أمرا طارئا، فإسرائيل نشأت بقوة دفع النبوءات الدينية التي آمن بها بالأساس المسيحيون الإنجيليون في الغرب. وتتعدد الشواهد على أن لبنان ربما سيصبح الضحية الجديدة لأقصى اليمين الإسرائيلي ونصوص العهد القديم التي يعاد استدعاؤها سعيا للسيطرة على أرض عربية جديدة هو رجل دين لن تخطئ وأنت تستمع لخطاباته أمام أنصاره لتلحظ مقدار اللغة الإقصائية التي تحملها، وتدرك سريعا أنه يتحدث لطائفته بأشياء لا تعتمد كثيرا على المنطق وتستبطن في الآن ذاته استعداء لبلاد وأديان أخرى. فهو على سبيل المثال كان قد أشار أكثر من مرة إلى أن الله أرسل هتلر ليكون مقدمة لإنشاء إسرائيل. قد تعتقد أن هذا حدثا عاديا يحدث في كل بلاد العالم وفي مختلف الأديان والطوائف، لكنك ستعرف أن الأمر أبعد من ذلك حين تدرك أن القس جون هاغي، راعي كنيسة كورنرستون في ولاية تكساس بالولايات المتحدة الأميركية، هو رئيس منظمة معروفة بتأثيرها ونفوذها الكبير على السياسة الأميركية « مسيحيون متحدون من أجل إسرائيل »، التي بلغ عدد أعضائها عام 2022، 10 ملايين عضو، أي أن أتباع هذه المؤسسة أكثر عددا من كل اليهود في دولة الاحتلال، وأكثر من عددهم في أميركا. يخطئ المتابع إذا افترض أن النقاش مع مؤيدي إسرائيل في الغرب، وخاصة في الولايات المتحدة، مبني على أساس الحجة والبرهان. فالحقيقة أن الكثير منهم يتأثرون بأفكار دينية جامدة، بعيدة عن طرق الاستدلال العقلي والمنهجية العلمية التي تعتز بها « الحضارة الغربية »، سواء عن نهاية العالم وحرب هرمجدون المقدسة، وعن عودة المسيح التي لا يؤمن أكثرهم بوقوعها إلا إذا سيطر الاحتلال الإسرائيلي على كل أرض فلسطين التاريخية. وربما يكون أهم المروجين لتلك النظريات والمنذرين باقتراب تلك الحرب العالمية الثالثة والأخيرة، والذي يؤثر إلى حد بعيد في السياسة الأميركية سواء على نحو مباشر أو غير مباشر هو القس جون هاغي.
يمتلئ العهد القديم بإشارات يرى العديد من أبناء الطائفة الإنجيلية في الولايات المتحدة -وجون هاغي أحد أهم رموزها- أنها واضحة بشأن حرب فاصلة بين الخير والشر سيقودها المسيح في تل مجدو الواقع شمال غرب مدينة جنين، وأن هذا المجيء للمسيح لن يحدث إلا إذا تحققت النبوءة التوراتية بسيطرة اليهود على أرض فلسطين كاملة. واحدة من أهم تلك الإشارات التي يستند عليها هؤلاء فيما يتعلق بحق اليهود في أرض فلسطين هي مقطع من سفر حزقيال يقول: « وَهَا أَنَا أَحْشِدُ أَبْنَاءَ إِسْرَائِيلَ مِنْ بَيْنِ الأُمَمِ الَّتِي تَفَرَّقُوا فِيهَا… وَيُقِيمُونَ فِي الأَرْضِ الَّتِي وَهَبْتُهَا لِعَبْدِي يَعْقُوبَ… فَيَسْكُنُونَ فِيهَا هُمْ وَأَبْنَاؤُهُمْ وَأَحْفَادُهُمْ إِلَى الأَبَدِ ». لكن إذا كان الأمر متعلقا بنبوءات الكتاب المقدس، فلماذا لا تُظهر بقية الطوائف الدينية بخلاف الإنجيليين هذا الحماس المفرط تجاه إسرائيل؟ الإجابة باختصار أن الكنيستين الأرثوذكسية والكاثوليكية تؤمنان بأن الكنيسة قد حلت محل بني إسرائيل باعتبارهم شعب الله المختار، ومن ثم فإن الوعود التي قطعها الرب لبني إسرائيل في العهد القديم قد تم نسخها بشكل أو بآخر. الأمر الآخر شديد الأهمية أن الكنيستين تريان الوعود التي منحت لبني إسرائيل بخصوص الأرض والمملكة، هي وعود روحانية متعلقة بمجيء المسيحية، ولا تعني وعودا سياسية حرفية، كذلك لدى الكنيستين اعتقاد راسخ أن المسيحية قد نسخت أي وضع خاص لقومية أو عرقية بحد ذاتها. وفيما يتعلق بحرب هرمجدون، فالكنيسة الكاثوليكية تؤمن بعودة المسيح ليهزم الشر وتقوم بعد ذلك القيامة، لكنها لا تركز على سيناريوهات محددة لحدوث ذلك بأن تفرض قوة احتلال نفسها على أرض ما أو خلافه، في حين تنظر الكنيسة الأرثوذكسية إلى حرب هرمجدون بتفسير رمزي، فهي حرب روحية مستمرة بين الخير والشر، سينتصر فيها المسيح بالنهاية. ورغم أن العديد من الطوائف البروتستانتية مثل الكنائس المشيخية واللوثرية، تؤمن كذلك بالفهم المجازي لحرب هرمجدون، وأن المسيح لن يأتي بشكل حرفي ليحكم العالم 1000 سنة بعد نهاية الحرب، لكن النسبة الأكبر من الإنجيليين والبروتستانت في الولايات المتحدة الأميركية يفسرون تلك الأحداث التي ذكرت في التوراة تفسيرًا حرفيًا ومن ثم فهم يؤمنون بحق إسرائيل الإلهي في الأراضي الفلسطينية، وأن المسيح سيأتي ليخلص العالم، ويتحول اليهود إلى المسيحية على إثر هذه العودة. وهنا يأتي دور القس جون هاغي كأحد أهم المروجين لاقتراب حرب هرمجدون وتلك الرؤية الدينية. لا يرهق جون هاغي نفسه بأن يعطي جمهوره مبررات تاريخية أو منطقية عن حق إسرائيل التاريخي في الأراضي الفلسطينية المحتلة، إذ يكتفي بحجة دينية بسيطة، قائلا إن الوعد الإلهي في التوراة قد أعطى إسحاق وأولاده أرض فلسطين، وفي المقابل وعد إسماعيل بأن يهب بنيه الكثير من المال (يستشهد هاغي على تحقيق الرب لوعده بالنفط الذي وُهب لأرض العرب). وبما أن الرب هو الذي يملك الأرض فهذا يعني أنه الوحيد الذي يملك الحق في إعطائها لمن يشاء، وقد أعطى اليهود هذه الأرض، ومن ثم فهو يعتقد أيضا أن تأسيس إسرائيل الحديثة بعد تشريد الفلسطينيين في عام 1948 هو معجزة إلهية، وبالنسبة له فإن إسرائيل لم تتأسس بقرار من مجلس الأمن، أو بقتال العصابات الصهيونية التي دعمها العالم، وإنما بقرار من الرب قبل آلاف السنين. ومن هذا المنطلق يعتقد جون هاغي أن هؤلاء الذين يدعون لحل الدولتين إنما يرجون لحل « مجنون »، فالرب قد أعطى الأرض مقدما لبني إسرائيل، وربما تكون المفارقة هنا في خطاب هاغي أنه حين ينتقد « اليساريين الغربيين » الداعين لحل الدولتين يقول إن هذا الحل المجنون ليس ممكنا فحسب فـ »كيف تدعوننا إلى التنازل لمن يريدون قتلنا فقط لأننا نختلف معهم في الدين ». وهو حين يقول ذلك يجد موجات حارة من التصفيق، ولا ينتبه أحد إلى أن هاغي نفسه هو من يدعو للاستيلاء على أراضي الآخرين وشن حرب شرسة ضدهم لأن سيادتهم على أرضهم لا تتناغم مع نبوءته الدينية.
كان الهوس الأميركي بالنبوءات الدينية حول نهاية العالم قد بدأ في سبعينيات القرن الماضي، حين أصبح كتاب « نهاية العالم » للكاتب هال ليندسي الكتاب الأكثر مبيعا في هذا العقد، وهو الكتاب الذي توقع أن نهاية العالم ستكون عام 1988 باعتبار أن الجيل الذي شهد النكبة الفلسطينية وتأسيس دولة إسرئيل عام 1948 هو آخر جيل سيعيش على الأرض. ومن ثم يعد هاغي امتدادا لتقليد شديد التأثير في قطاع واسع من الشعب الأميركي، بل وحتى السياسيين الأميركيين، وهذا القطاع الواسع لا يهتز شغفه بالنبوءات الدينية مع فشل كل تنبؤ تلو الآخر في محاولة إجراء الحسابات لمعرفة النهاية، والموعد المقترب للحرب الكبرى في الشرق الأوسط. ولجون هاغي بالتحديد قدرة فائقة على الحديث مع جمهوره من الإنجيليين المنتمين للطبقات العليا، فهو يحضر لهم دائما ما يلهب خيالاتهم المتشوقة للنبوءات المثيرة. في إحدى المرات، وهو يشرح لهم ما الذي سيحدث في العالم في السنوات القادمة وفق ما يعتقد أنه ذُكر في التوراة، أحضر لهم عرش الممالك السبع في مسلسل « صراع العروش » وبدأ بتشغيل عرض مثير لهم على الشاشة وهو يحكي كيف سيأتي المسيح ويعقد هدنة تتضمن « حل الدولتين » في الشرق الأوسط، ثم تأتي بعدها جيوش روسيا والاتحاد الأوروبي ومصر لتعلن الجهاد ضد إسرائيل ليعود المسيح ويقتل 4 من كل 5 جنود من تلك الجيوش. يمتلك الرجل أيضا قدرة مثيرة على ليّ عنق أي عبارة في التوراة على نحو يجعلها مفسرة لشيء يحدث في الوقت الحالي، وفي الوقت نفسه هو دائمًا يذكر الحضور بطبيعته الخاصة، فهو رجل دائمًا ما تحدث له المعجزات، وواحدة من تلك المعجزات التي يذكرها بفخر كبير باعتبارها معجزة مبهرة هي أنه حين دعا 400 قس للتحالف المسيحي من أجل إسرائيل استجابوا كلهم، وهو يُذكّر جمهوره أيضًا بأنه على تواصل مباشر بالسيد المسيح، إذ يقول إنه ذهب لأول مرة إلى إسرائيل عام 1978 كسائح وعاد منها « صهيونيا »، لأنه رأى رجلا عند حائط المبكى يمسك بالتوراة ويبكي في خشوع، فأوحى السيد المسيح لجون هاغي -حسب روايته- بأن « هذا الرجل الذي يبكي هو أخوك الروحي وأنت لا تعلم عنه شيئًا وهو الآن خائف منك، أنا أريد منك أن تفعل كل شيء في وسعك لتجمع المسيحيين واليهود معا في جو من الاحترام والحب ». ولعل من أهم المفاهيم التي أسهم هاغي في زرعها على نطاق واسع في العقل الإنجيلي الأميركي ثم انطلقت بعد ذلك لتغزو الثقافة بشكل عام، هي فكرة أن انتقاد إسرائيل سيعني باختصار استجلاب لعنة الرب، لأن الرب قد قال في آية من سفر التكوين في العهد القديم موجهة للنبي إبراهيم: « سأبارك أولئك الذين يباركونك، ومن يلعنك سألعنه »، وبحسب تقرير للغارديان، فإن هذه الآية قد تحولت على نطاق واسع في قناعة المسيحيين المؤيدين للصهيونية من إبراهيم لإسرائيل الحديثة، إذ جرى استبدال إبراهيم بالشعب اليهودي في هذا المنظور، بحيث أصبح طريق استجلاب البركة من الرب هو مباركة ما تفعله دولة إسرائيل وجمع التبرعات لها والسياحة في الأراضي التي تحكمها وإعطاء الأصوات الانتخابية لمن يدعمونها، وتجنب انتقادها على أي نحو. ولا عجب هنا أن هاغي بعد انطلاق عملية فصائل المقاومة الفلسطينية في السابع من أكتوبر/تشرين الثاني 2023 قد ذكّر جمهوره على يوتيوب بالآية، وقال بعد ذلك بنشوة عارمة أن إسرائيل ستبدأ في غزو غزة، وأكد ضرورة دعم إسرائيل في أي قرار ستتخذه وترى أنه الأصلح لحماية شعبها، كما أكد ضرورة أن تدعم الولايات المتحدة إسرائيل في الصراع الدائر. الأهم من ذلك أن اليهود المؤيدين لإسرائيل وغيرهم يعلمون جيدًا دافع هاغي الأساسي، حيث يريد أن تسيطر إسرائيل على الأراضي العربية، ويريد تسريع الاستيطان، لا لأنه يريد الخير لليهود في أن يتوسعوا في الأرض، ولكن لأنه وفق نبوءته يرى أن ذلك التوسع هو مفتاح عودة المسيح التي ستجعل اليهود يعتنقون المسيحية حين يعرفون الحق كما يعتقد. يعرف بنيامين نتنياهو ذلك جيدًا، فاليمين الإسرائيلي لا يتصور نهاية التاريخ على النحو الذي يتصوره هاغي بالمرة والذي لا يعد فيه اليهود أكثر من مجرد جنود صغار يمهدون لعودة المسيح الذي لا يؤمنون به، لكن ذلك لم يمنع رئيس وزراء دولة الاحتلال من أن يقول في المؤتمر السنوي لمؤسسة هاغي عام 2017: « إننا لا نملك أصدقاء أعظم من المؤيدين المسيحيين لإسرائيل، فأنا أعلم وقفتكم معنا دائما. أنتم تقفون معنا لأنكم تقفون مع أنفسكم لأننا نمثل ذلك التراث المشترك للحرية الذي يعود إلى آلاف السنين. ليس لأميركا صديق أفضل من إسرائيل وليس لإسرائيل صديق أفضل من أميركا. وليس لإسرائيل صديق في أميركا أفضل منكم ».
« أعتقد أن معظم الناس يتفهمون ضرورة تمويلنا لإسرائيل. إنهم يقاتلون من أجل وجودهم.. بالنسبة لنا نحن المؤمنين، هناك توجيه في الكتاب المقدس بأن نقف إلى جانب إسرائيل، وسنفعل ذلك بلا ريب وسينتصرون طالما كنا معهم ». *رئيس مجلس النواب الأميركي مايك جونسون. لا تعد نبوءات جون هاغي التي يشحذ بها العقول الأميركية البيضاء مجرد نبوءات رجل دين تشعل الحماسة في صفوف أتباعه، وإنما هي نبوءات محركة للسياسة. في كتابيها: « النبوءة والسياسة، الإنجيليون العسكريون في الطريق إلى الحرب النووية » و »يد الله، لماذا تُضحي الولايات المتحدة بمصالحها من أجل إسرائيل؟ » حاولت الصحفية الأميركية غريس هالسل، التي كانت تعمل في البيت الأبيض في عهد الرئيس الأميركي الأسبق ليندون جونسون أن تبحث عن السر الذي يجعل بلادها تدعم دولة الاحتلال إلى هذا الحد وتبرر لها كل أخطائها، بل وتضحي بمصالحها الإستراتيجية لأجلها، وقد وجدت الإجابة في تشبع العقل الأميركي -سواء من النخبة والمسؤولين وحتى العديد من الرؤساء أو من المواطنين العاديين- بالنبؤات الإنجيلية الصهيونية. في احتفالية نقل السفارة الأميركية في دولة الاحتلال إلى القدس كان القس جون هاغي حاضرًا مع كبار المسؤلين لـ »يلقي البركات » على عملية النقل التي تثبت الحقيقة وفق اعتقاده، وهي أن تلك الأراضي ملك لليهود منذ 3 آلاف سنة وحتى الآن، وذلك بالطبع وفق تفسيره للكتاب المقدس. ولا عجب في ذلك فقد صرح نائب الرئيس الأميركي آنذاك الإنجيلي مايك بنس بوضوح: « نحن ندعم إسرائيل بسبب الوعد التاريخي المقدس أن من يدعمهم الآن سينال بركة الرب »، كذلك لم يكن مايك بومبيو، وزير خارجية ترامب، يخجل من استخدام اللغة الدينية الصريحة نفسها، فهو من أكثر المتأثرين بفكرة ضرورة دعم دولة الاحتلال من أجل التسريع بتحقيق نبوءة حرب هرمجدون، وكان يقول إن ترامب هو مبعوث العناية الإلهية لحماية إسرائيل، وقد كان الوعاظ الإنجيليون في عهد ترامب ينظمون دورات خاصة في البيت الأبيض أسبوعيًا لبعض العاملين فيه، من أجل شرح الكتاب المقدس وما يتضمن ذلك من نبوءات آخر الزمان لهم.
ويوجد في الولايات المتحدة الأميركية ما يقارب 80 مليون إنجيلي مسيحي، كما يوجد بشكل مباشر قرابة 40 مليون شخص من أتباع المسيحية الصهيونية التي يعد هاغي أبرز رموزها، ويمتلك هذا التيار بشكل عام 100 محطة تلفزيونية و1000 محطة إذاعية، كما يمتلك 80 ألف قسيس يقومون بأعمال التبشير. ولا يؤثر جون هاغي في الكيان الصهيوني فقط بشكل غير مباشر من خلال التأثير في السياسيين الأميركيين أو الناخبين الأميركيين، ولكن تأثيره يمتد ليصبح مباشرا للغاية وأكثر من مجرد دعم خطابي، فمن عام 2001 إلى عام 2015 تبرعت مؤسسة هاغي بأكثر من 58 مليون دولار للمستوطنات ولأكثر المنظمات الصهيونية اليمينية تطرفا، وقد جمع هاغي في عام 2021 أكثر من 3 مليارات دولار تبرعات لأجل إسرائيل، كما تقوم مؤسسته ببيع أعلام إسرائيل بدولارين للعلم الواحد، وتذهب أموال تلك الأعلام بحسب « تايمز أوف إسرائيل » للأعمال الخيرية بإسرائيل. ورغم التأثير الطاغي لهاغي ورفاقه على المخيال السياسي الأميركي، فإن أحدث الإحصاءات تكشف أن الأمور قد تتغير في السنوات القادمة، فقد كشف استطلاع أعدته جامعة كارولاينا الشمالية أن الإنجيليين الأصغر سنا أصبحوا أكثر ميلا تجاه فلسطين وقضايا العدالة الاجتماعية، فبعد أن كان 40% منهم مؤيدين لميل الولايات المتحدة لصالح إسرائيل عام 2015، أصبح 21% فقط مؤيدين لهذا الأمر في عام 2018. وبحسب تقرير للغارديان البريطانية، فإن هاغي الذي يقود الآن الإنجيليين في الولايات المتحدة، هو في الثمانينيات من عمره، ولكن في غضون الأعوام الـ15 القادمة ستصبح هناك قيادات جديدة للمجتمع الإنجيلي، هذه القيادات ستجد نفسها أمام أجيال جديدة تؤمن بعدالة القضية الفلسطينية، وهذا سيلعب دوره في تغيير الكثير من الأمور الراسخة الآن. لطالما كانت الصورة الغربية السائدة هي أن العرب والمسلمين تحديدا غير عقلانيين ويحكمون قصصهم و »أساطيرهم » الدينية في كل حركاتهم، في حين أن الغرب هو منبر العلمانية والانفتاح والعقلانية، ولكن نظرة سريعة على الدور المتعاظم الذي يلعبه هاغي ورفاقه في تشكيل المخيال السياسي الأميركي، فضلا عن حضوره البارز في دوائر صناعة القرار، ودفعه لتصرفات سياسية أميركية منافية لمعايير العدالة الأخلاقية، وتسويغها من خلال النصوص الدينية وحرب هرمجدون المنتظرة، الأمر الذي دفع الكثيرين لكسر أصنام القيم الغربية التي ظلت سائدة لعقود
This website uses cookies to improve your experience while you navigate through the website. Out of these, the cookies that are categorized as necessary are stored on your browser as they are essential for the working of basic functionalities of the website. We also use third-party cookies that help us analyze and understand how you use this website. These cookies will be stored in your browser only with your consent. You also have the option to opt-out of these cookies. But opting out of some of these cookies may affect your browsing experience.
Necessary cookies are absolutely essential for the website to function properly. These cookies ensure basic functionalities and security features of the website, anonymously.
Cookie
Durée
Description
cookielawinfo-checbox-analytics
11 months
This cookie is set by GDPR Cookie Consent plugin. The cookie is used to store the user consent for the cookies in the category "Analytics".
cookielawinfo-checbox-functional
11 months
The cookie is set by GDPR cookie consent to record the user consent for the cookies in the category "Functional".
cookielawinfo-checbox-others
11 months
This cookie is set by GDPR Cookie Consent plugin. The cookie is used to store the user consent for the cookies in the category "Other.
cookielawinfo-checkbox-necessary
11 months
This cookie is set by GDPR Cookie Consent plugin. The cookies is used to store the user consent for the cookies in the category "Necessary".
cookielawinfo-checkbox-performance
11 months
This cookie is set by GDPR Cookie Consent plugin. The cookie is used to store the user consent for the cookies in the category "Performance".
viewed_cookie_policy
11 months
The cookie is set by the GDPR Cookie Consent plugin and is used to store whether or not user has consented to the use of cookies. It does not store any personal data.
Functional cookies help to perform certain functionalities like sharing the content of the website on social media platforms, collect feedbacks, and other third-party features.
Performance cookies are used to understand and analyze the key performance indexes of the website which helps in delivering a better user experience for the visitors.
Analytical cookies are used to understand how visitors interact with the website. These cookies help provide information on metrics the number of visitors, bounce rate, traffic source, etc.
Advertisement cookies are used to provide visitors with relevant ads and marketing campaigns. These cookies track visitors across websites and collect information to provide customized ads.
Laisser un commentaire