كل الأرقام التي أطلقت لتحديد حجم تجارة الأسلحة هي أرقام تقديرية لعدم وجود معلومات دقيقة، لكن أغلب التقديرات الموثوق منها تجمع على إنفاق سنوي يتأرجح ما بين التريليون ونصف والاثنين تريليون دولار، وهو رقم بجانبه اثنا عشر صفرًا ويساوي تقريبًا 3% من كامل الناتج المحلي العالمي، دلالة قاطعة على أنها التجارة الأقوى عالميًا متخطية تجارة المخدرات صاحبة المركز الثاني. مبيعات أكبر 100 شركة في مجال صناعة وتطوير الأسلحة تقترب بشكل حثيث من نصف تريليون دولار، والصناعة نفسها لا تقتصر على صناعات الشركات الكبرى التي تغذي الجيوش النظامية فقط، وإنما تمتد لأبحاث عسكرية ودعم لوجيستي وصناعات الأسلحة المتوسطة والصغيرة وميكانيزم تهريب السلاح وعمولات الساسة والسماسرة والجنرالات لتسهيل الشراء أو إرساء المناقصات على شركات بعينها. على عرش مصدري الأسلحة تتربع ثلاث دول بلا منافس قريب وهي (الولايات المتحدة/ روسيا/ الصين)، يأتي بعدها أكبر أربع دول في الاتحاد الأوروبي، في صناعة السلاح وهي (فرنسا/ إنجلترا/ ألمانيا/ إيطاليا)، ثم نجد إسرائيل، بينما تحتل الهند المركز الأول عالميًا في استيراد الأسلحة، تليها الإمارات فالصين ثم المملكة العربية السعودية فباكستان، وتأتي الولايات المتحدة في المركز العاشر ومصر في المركز الثاني عشر. وما تستورده الولايات المتحدة ليس أسلحة عادية بالطبع وإنما تستورد أنظمة إلكترونية دفاعية دقيقة في الغالب وأسلحة متوسطة وصغيرة لا تصنعها بكثافة أو صفقات ضئيلة في إطار توطيد علاقات سياسية بدولة أخرى.
بينما تدخل الحرب الروسية في أوكرانيا عامها الثاني تستهدف المساعدات العسكرية الضخمة المتدفقة إلى ساحة القتال غايات أبعد من إنعاش سوق السلاح العالمية واختبار فعالية بعض الأنظمة التسليحية، لتتكشف التأثيرات بعيدة المدى للحرب ومن أبرزها إقصاء روسيا عن قائمة أباطرة السلاح في العالم، وصولاً إلى تغيير شبه قسري لإستراتيجيات الدفاع والأمن القومي والعقيدة العسكرية لمعظم القوى الفاعلة في المسرح العالمي. الحرب التي أدت إلى ازدهار صناعة السلاح في العالم وفرت في الوقت ذاته فرصة ذهبية أمام الولايات المتحدة لتشجيع مستوردي السلاح الروسي على الاستغناء عنه، لينشأ صراع على مكانة وحصة موسكو كثاني أكبر مصدر للأسلحة في العالم بعد الولايات المتحدة بمتوسط مبيعات سنوية تزيد على 13 مليار دولار، لتشرع سوق السلاح أبوابها أمام الصين. ويتفق مراقبون أن الحرب غيرت كثيراً من المفاهيم والإستراتيجيات العسكرية، وجعلت جهوزية الجيوش في حاجة إلى مراقبة ومراجعة مستمرة، كما أنعشت أيضاً السوق السوداء للسلاح وأعادت الاعتبار للقوة العسكرية في العلاقات الدولية، لتمثل نقطة ارتداد عكسي لمسار عولمة التكامل الاقتصادي والاعتماد المتبادل، لتعود لغة القوة والسلاح « أصدق أنباء » من الدبلوماسية والحوار في علاقات الدول. تشير معظم التقارير التي تستشرف مستقبل صناعة السلاح في العالم بعد الحرب في أوكرانيا إلى تغير كبير في خريطة سوق السلاح العالمية، وتتجه الصين والولايات المتحدة إلى الاستفادة المباشرة من تراجع مكانة روسيا كمصدر رئيس للسلاح، بينما تسعى بلدان أخرى إلى لعب دور متنام في صناعة الأسلحة خلال السنوات المقبلة من خلال تطوير صناعاتها الدفاعية المحلية، وتشمل القائمة معظم بلدان الأسواق الناشئة وعلى رأسها تركيا، فيما تقفز بولندا وكوريا الجنوبية خطوات واسعة نحو الأمام في سوق السلاح العالمية. ويعد ظهور أنماط جديدة للأسلحة وآخرها مناطيد التجسس والأجسام الطائرة المجهولة خلال الأسابيع الماضية دليلاً عن أن لغة السلاح أصبحت اللغة العالمية السائدة بين الدول حالياً، سواء في الميدان الأوكراني أو خارجه، إضافة إلى تسريع عملية « عسكرة » و »أمننة » مجالات سلمية مثل الفضاء الخارجي والفضاء السيبراني. أن الحرب الروسية – الأوكرانية تسببت في سيادة نمط عسكرة التفاعلات على مجمل العلاقات الدولية، « فأوكرانيا ساحة اشتباك مباشرة وغير مباشرة تجمع القوى النووية الرئيسة في العالم، الولايات المتحدة وروسيا والصين وبريطانيا وحلف الـ « ناتو »، وهذه القوى وجدت في أوكرانيا ميدان معركة يحتم استخدام أفضل أنظمة التسلح حتى وإن لم تشتبك ميدانياً في قلب المعركة ». ودفعت الحرب الأوكرانية عدداً من الدول إلى زيادة إنفاقها الدفاعي في ظل تزايد مؤشرات العسكرة وإحياء الحرب لغة الحلول العسكرية على حساب الحلول الدبلوماسية ويظهر ذلك بشكل خاص بالنسبة إلى الدول الأوروبية التي وجدت نفسها تنتقل من سنوات « عائد السلام » التي تمكنت خلالها من تعزيز التكامل الاقتصادي وزيادة التبادل التجاري والإنفاق على القطاعات المدنية في ظل الاعتقاد بأن عصر الحروب الكبرى في القارة قد ولّى، فتنتقل إلى سنوات « اقتصاد الحرب » على حد تعبير الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وسط حال من تزايد الإنفاق الدفاعي لتلك الدول. وبشكل عام تحفز حال العسكرة التي خلقتها الحرب الأوكرانية من إنفاق دول العالم داخل وخارج أوروبا مزيداً من الأموال على القطاعات العسكرية. تأثرت سوق السلاح العالمية بشكل كبير بالحرب الأوكرانية، إذ تسببت الحرب خلال عام في إنعاش سوق السلاح بشقيها الرسمي وغير الرسمي المرجح استمراره بفعل العسكرة التي خلقتها وعززتها الحرب وتوجه الدول نحو زيادة إنفاقها الدفاعي، فعلى المستوى الرسمي دعمت الدول الغربية أوكرانيا بإمدادات تسليحية كبيرة بالشكل الذي أثر في المخزون الغربي من السلاح، مما يدفع إلى تكثيف وتسريع عملية تصنيع السلاح لتعويض الفاقد، فضلاً عن أن التوقعات بموجة جديدة من التصعيد بحلول الذكرى الأولى للحرب مع بداية فصل الربيع تشير بالتبعية إلى استمرار انتعاش سوق السلاح وتكثيف عمليات التصنيع والتوريد، بخاصة في ظل استمرار الحرب بلا أفق واضح أو مدى زمني محدد لنهايتها، وكذلك في ظل المطالبات الأوكرانية المستمرة بمزيد من الإمدادات التسليحية. أن الحرب الأوكرانية هي بمثابة ساحة اختبار وتنافس وترويج بين السلاح الروسي و الغربي، فعلى سبيل المثال حرصت تقارير غربية على توظيف صور الآليات العسكرية الروسية المدمرة وفشل موسكو في السيطرة على كييف كأدلة على فشل الأسلحة الروسية لإضعاف ثقة المستوردين لتلك الأسلحة، فضلاً عن عقد المقارنات بين كفاءة الأسلحة الروسية والغربية في ساحة المعركة، وأن الحروب بشكل عام تعد ساحة لاختبار وتجربة وتقييم الأسلحة والترويج لها
إعادة الاعتبار للقوة العسكرية أبرز النتائج المباشرة لعام من الحرب في أوكرانيا، هكذا وصف الباحث بالمركز المصري للفكر والدراسات الإستراتيجية محمود قاسم السمة الرئيسة للمشهد الدولي الراهن، إذ أظهر العام الأول من الحرب الروسية أن النظريات الرامية إلى تعزيز التعاون بين الدولة تراجعت لمصلحة نظرية القوة الصلبة وتحديداً العسكرية، باعتبارها ضامناً لأمن ومصالح الدول، بمعنى أن الحرب الروسية – الأوكرانية جعلت من امتلاك القوة العسكرية سواء الهجومية أو الدفاعية محدداً رئيساً لقدرة الدولة على التأثير وإثبات الحضور أو على الأقل ضمان البقاء والمقاومة في حال الاعتداء عليها من قبل دولة أخرى، وعليه برزت ملامح وأشكال جديدة ترمي للعسكرة سواء في إطار تحالفات أو مساعي بناء وتطوير القدرات الذاتية للدول. وتشير ملامح العسكرة أيضاً إلى فكرة تغير المعادلة المرتبطة بامتلاك وحيازة السلاح النووي، فعلى رغم أن الثابت في المعادلة النووية هو أن امتلاك النووي يكون للردع، إلا أن التلويح بإمكان استخدامه من روسيا يدل على طبيعة التفاعلات القائمة التي يمكن أن تتجاوز أية خطوط حمراء، وعلى رغم صعوبة استخدمه نظراً لارتفاع الكلفة وعدم القدرة على تحمل تبعاته، إلا أن التفاعلات المستقبلية قد لا تستبعد توظيف السلاح النووي التكتيكي، بخاصة إذ ما استمر الدعم الغربي وتسبب في خسائر إستراتيجية لروسيا. اعتمدت القوة بالأساس على مدى متانة التحالفات العسكرية لطرفي الصراع، وليس بالضرورة القوة الذاتية لكل من الطرفين المباشرين روسيا وأوكرانيا، ويوضح محمود قاسم أنه « ظهر خلال العام الماضي نمط الشراكات والتحالفات العسكرية كملمح لحال العسكرة القائمة في المشهد الدولي، وأظهر الاعتماد الروسي على المسيرات الإيرانية ومساعي الطرفين إلى تطوير التعاون بينهما ليشمل التصنيع المشترك للطائرات من دون طيار وزيادة قدرتها التدميرية ومدياتها، إلى تشكل التحالفات والشراكات العسكرية وفقاً لمعسكرين روسي – إيراني – صيني في مقابل معسكر أميركي – غربي، لينطلق كل معسكر من فرضية تعزيز التحالف العسكري لتطويق الخصم أو الحد من نفوذه، مما سيسهم بصورة كبيرة في تغليب لغة العسكرة على حساب التعاون والتكامل ». الملمح الأهم في التحالفات القائمة على خلفية الحرب هو القدرة على تأمين ضخ المساعدات العسكرية، ويتمثل ذلك في الدعم العسكري غير المسبوق من قبل الولايات المتحدة الأميركية والغرب، إذ التزمت واشنطن بتقديم مساعدات مالية وأسلحة وذخائر ومنظومات متطورة إلى جانب الدول الغربية الأخرى بدرجات متفاوتة بهدف استنزاف روسيا بصورة رئيسة وضمان استمرار المقاومة الأوكرانية. هذا الدعم تسبب في إطالة أمد الحرب ومنع روسيا في تحقيق مكاسب ميدانية وعسكرية فارقة مما زاد وسيزيد من حال العسكرة، بخاصة أن السلاح الغربي تسبب في إحداث نزف أو صدمات عسكرية ملحوظة لروسيا، وهو ما قد يستدعي قيام روسيا برد عنيف خلال الفترات المقبلة على الأقل للحفاظ على سمعة السلاح الروسي في مواجهة السلاح الغربي.
حدثت نقلة نوعية في سقف الإنفاق الدفاعي لمعظم دول الاتحاد الأوروبي والعالم، وبدأ الانفاق يتجه لحاجز الاثنين في المئة من الناتج المحلي الإجمالي لدول التكتل للمرة الأولى خلال العام الماضي، ومنها ألمانيا وبلجيكا والمجر والدنمارك وإيطاليا والسويد. أن هذا الاتجاه جاء « تنفيذاً لإستراتيجية الاتحاد الأوروبي التي تهدف إلى أن يكون أكثر استقلالية وألا يعتمد على الـ ’ناتو‘ بصورة شبه كلية في خططه التسليحية، ويتضافر ذلك مع وجود خطط يابانية استثنائية وعملاقة لرفع الإنفاق الدفاعي إلى اثنين في المئة من الناتج المحلي الإجمالي خلال خمسة أعوام، بإجمال موازنة تخطت 330 مليار دولار للمرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية ». في المقابل حفزت الحرب الروسية -الأوكرانية اتجاهات العسكرة في العلاقات الدولية، وبشكل خاص في القارة الأوروبية وكذلك في القارة الآسيوية ومنطقة الـ « إندوباسيفك » التي بات ينظر إليها على أنها بؤرة صراعية تالية، وسط مخاوف من أن يحفز السلوك الروسي تجاه أوكرانيا سلوكاً صينيا مشابهاً تجاه تايوان. أن « التأثيرات الاقتصادية للحرب الأوكرانية اللاحقة لتأثيرات جائحة كورونا عززت توجه الحكومات نحو تنويع الواردات وسلاسل الإمداد، وكذلك تعزيز درجة الاعتماد على الذات أو الحلفاء المأمونين في تلبية الحاجات الأساس والمواد الإستراتيجية، ويدفع التوظيف الروسي لورقة الغاز اقتصادياً وإستراتيجياً ضد الغرب الدول الغربية إلى التفكير في إستراتيجيات التعامل مع الصين إذا ما وظفت بشكل مشابه ورقة المواد والمنتجات الاقتصادية والتكنولوجية ضدهم حال اندلاع حرب في تايوان ». تغير المفاهيم والعقيدة العسكرية يمثل الاتجاه الأبرز خلال العام الأول من الحرب، إذ تغيرت العقيدة العسكرية لعدد من الدول، فعلى سبيل المثال ظهرت ألمانيا بشكل مغاير لما كانت عليه منذ الحرب العالمية الثانية، إذ اتجهت سريعاً نحو تطوير وتحديث قواتها المسلحة وتخصيص موازنة تقدر بنحو 100 مليار يورو للدفاع. من ناحية أخرى اتجهت دول الحياد، فنلندا والسويد، إلى تجاوز تلك الفكرة والانضمام تحت مظلة الـ « ناتو »، وهو تحول لافت ناجم بصورة مباشرة عن الحرب الأوكرانية، ويشير بشكل أساس إلى فكرة العسكرة التي تسيطر على الساحة الدولية ومساعي كل طرف إلى امتلاك الردع أو ضمان الاحتماء بقدراته الذاتية أو قدرات حلفائه حال امتداد الحرب إليه. لا تنفصل عن هذا التوجه حال التحول الكبير التي تشهدها اليابان والتي كانت وقعت على وثيقة الاستسلام في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وظلت توجهاتها طوال العقود الماضية تسير في إطار السلمية والابتعاد من العسكرة، إلا أن العام الماضي شهد تحولاً في عقيدتها بشكل دفعه إلى زيادة الانفاق الدفاعي لنحو اثنين في المئة بموازنة تقدر بـ 320 مليار دولار خلال السنوات الخمس المقبلة، مما يضعها ضمن أعلى الدول إنفاقاً في العالم بعد أميركا والصين، علاوة على مساعيها إلى التعاقد على منظومات ومعدات عسكرية متطورة
مراجعة جهوزية الجيوش
تجربة السلاح الغربي في أوكرانيا، سواء من زاوية مواجهة الأسلحة الغربية الحديثة لنظيراتها الروسية، أو من زاوية ماهية الأسلوب التكتيكي الذي تم من خلاله استخدام هذه الأسلحة، ناهيك بالتجربة المهمة للذخائر الجوالة وقذائف المدفعية الموجهة خلال العمليات العسكرية بالجبهات المختلفة، كان لها جميعاً تأثير مهم في ما يتعلق بنظرة الجيوش حول العالم للجانب النوعي من المنظومات القتالية، والنظرة العامة للمخطط العسكري الغربي لمدى جهوزية الجيوش الأوروبية لخوض نزاعات عسكرية تقليدية أو غير تقليدية في نطاقات زمنية قريبة، كما
كان ملحوظاً تزايد شهية دول مثل بولندا لشراء منظومات قتالية متقدمة وإحلالها محل المنظومات المتقادمة التي تمتلكها، استغلالاً منها ومن دول أخرى مثل سلوفاكيا لحاجة أوكرانيا خلال المراحل الأولى للحرب إلى معدات ومنظومات ذات منشأ شرقي أو سوفياتي، وكذلك لجأت دول أوروبية مثل ألمانيا وبريطانيا وآسيوية مثل اليابان وكوريا الجنوبية إلى البدء في مراجعة جادة لجهوزية جيوشها من حيث المستوى العملياتي أو ما يتعلق بالجانب التسليحي وتوفر الذخائر والمنظومات القتالية الكافية، وكذا مستوى جهوزية هذه المنظومات. »
كما تصاعدت أهمية المنظومات الصاروخية التكتيكية والذخائر الجوالة في نظر متابعي فعاليات هذه الحرب، وبدأت دول مثل كوريا الجنوبية في التوجه بشكل فعلي نحو تطوير منظومات صاروخية باليستية وجوالة ذات مدى كبير، إضافة إلى أن عدم توافر كميات كافية من الذخائر الخفيفة والمتوسطة في الترسانات الأوروبية بعد أن بدأ الدعم العسكري الموجه لأوكرانيا في التدفق على كييف، ألقى الضوء على ما تواجهه المؤسسات العسكرية الأوروبية من معضلات مالية وإجرائية تتعلق بالتصنيع العسكري.
الاتجاه نحو الأنظمة التسليحية غير المأهولة مثل الطائرات المسيّرة ومناطيد التجسس والقتال، إضافة إلى صواريخ الكروز والمسيرات البحرية والجوية، وصولاً إلى أنظمة الأقمار الاصطناعية العسكرية المخصصة لأغراض الاستطلاع والمراقبة والتجسس وقيادة العمليات وتوجيه الذخائر الذكية، من بين الاتجاهات الجديدة في التسليح التي أفرزتها الحرب في أوكرانيا وعززت صدارتها لقائمة أسلحة حروب المستقبل. إزدهار صناعة الطائرات المسيرة في العالم وزيادة الاعتماد عليها لأغراض دفاعية، إذ تشير تقديرات إلى أن سوق الـ « درونز » العسكرية ستصل إلى 18.3 مليار دولار بحلول عام 2026، كما تستعد قوى متوسطة مثل اليابان وكوريا الشمالية إلى إطلاق برنامج ضخم للأقمار الاصطناعية حتى عام 2024. تنوي اليابان امتلاك شبكة من 50 قمراً اصطناعياً عسكرياً لتعزيز الاتصالات والردع وتتبع الصواريخ والقدرة على شن الهجمات المضادة، في سابقة تاريخية سيكون لها تداعياتها الخاصة على منطقة الباسيفيك والصراع مع الصين التي باتت تمتلك معرفة تكنولوجية هائلة بالأقمار العسكرية، علاوة على تزايد القدرات الروسية الخاصة في تدمير الأقمار ». ويأتي ذلك بالتوازي مع تقارير استخباراتية نشرتها الصحافة الغربية تفيد بوجود خطط روسية لبناء مصنع للمسيرات الإيرانية داخل روسيا لإنتاج ما لا يقل عن 6 آلاف مسيرة. « لعل في المواجهة المستمرة حتى اللحظة بين المقاتلات الأميركية والمناطيد الصينية فوق أجزاء من كندا والولايات المتحدة مثالاً بسيطاً على انتقال عسكرة التفاعلات إلى مستوى جديد من المواجهة عنوانه الأبرز مواجهة أنظمة مأهولة لأنظمة غير مأهولة أقل تعقيداً وأكثر إرباكاً للمنظومات الدفاعية، ما سيفرز على المدى المتوسط وجود أنماط من التكامل الدفاعي على المستوي الإقليمي أكثر منها على المستوي القاري والدولي، لتصبح أولوية كبرى تجيء قبل التكامل الاقتصادي في مناطق عدة من العالم ». وفي ضوء تحقيق الحرب في أوكرانيا للمعنى الحرفي لأسلوب الحرب الهجينة، تسلحت أوكرانيا أيضاً بأصناف هجينة من الأسلحة تهدف إلى زيادة القوة التدميرية واختبار أنواع جديدة من الاستخدامات العسكرية التكتيكية للأسلحة القائمة، ومن بين حزمة مساعدات عسكرية تبلغ قيمتها 2.2 مليار دولار، ستصل كييف قنابل من نوع « جي إل إس دي بي » الأميركية التي يتم تركيبها على الصواريخ الخاصة براجمات « هيمارس »، ليصل مداها إلى 150 كيلومتراً، أي نحو ضعف مدى صواريخ « هيمارس » التي وصلت لأوكرانيا سابقاً
نقص حاد
أدت الحرب في أوكرانيا إلى زيادة الطلب على السلاح كنتيجة مباشرة لزيادة الإنتاج الروسي وسعي الدول الغربية إلى ملء ترسانة أسلحتها لتعويض نقص حاد في المخزون الموجه إلى كييف، وعلى رغم ذلك لا يمكن القول إن الصراع الدولي الراهن أدى إلى ازدهار سوق السلاح العالمية بشكل كامل، فهناك عوامل أدت إلى إعاقة الإنتاج أيضاً وأخرى تسببت في تغير خريطة تجارة الأسلحة والمعدات العسكرية والأمنية في العالم بعد ما كانت الصين وفرنسا وألمانيا وروسيا والولايات المتحدة تشكل معاً مجموعة الخمس الكبار للدول المصدرة للسلاح عالمياً خلال الفترة من عام 2017 وحتى 2021. وواجه مصنعو السلاح في العالم صدمة زيادة الطلب على الأسلحة عقب الحرب الروسية في أوكرانيا، لكن مشكلات سلاسل التوريد التي يعاني منها الاقتصاد العالمي منذ جائحة « كوفيد-19 » أبطأت النمو نسبياً في قطاع الصناعات الدفاعية كغيره من القطاعات، كما أدت العقوبات المتعلقة بالحرب إلى عرقلة زيادة إنتاج الشركات الروسية نتيجة المشكلات المرتبطة بالمدفوعات المالية وصعوبات الشحن والتردد في إتمام بعض الصفقات مع توفر بدائل غربية أمام مستوردي السلاح الرئيسيين، فضلاً عن حاجة بعض منتجي الأسلحة إلى سنوات لتلبية إجمال الطلب الذي أحدثته حرب أوكرانيا. أن روسيا ستكون الخاسر الأكبر على مستوى التجارة في سوق الأسلحة العالمية، نتيجة تشكك المشترين في معظم الأسلحة الروسية من زاوية الموثوقية في فاعليتها والقدرة على إيصالها في المستقبل، بعد أن كانت الأسلحة الروسية مفضلة لدى كثير من المشترين لكونها أرخص وأسهل في الصيانة من البدائل الغربية، مما مكن موسكو من الاستحواذ على 19 في المئة من صادرات الأسلحة العالمية خلال الفترة من عام 2017 وحتى 2021، لتكون الثانية بعد الولايات المتحدة التي تمتلك 39 في المئة من السوق العالمية. وعلى أي حال تستفيد واشنطن من الوضع القائم لسوق السلاح العالمية مع ارتفاع الإنفاق الدفاعي العالمي للسنة السابعة على التوالي وتخطي الإنفاق العالمي على الأنظمة التسليحية والدفاعية حاجز تريليوني دولار بما يمثل 2.2 في المئة من إجمال الناتج العالمي، واستحواذ أكبر 100 شركة سلاح بالعالم على نصف تريليون من مبيعات الأنظمة التسليحية، ومن بين هذه الشركات المئة 41 شركة أميركية، مما يضع الولايات المتحدة على رأس القائمة في تلبية الحاجات الدفاعية لدول العالم.
السلاح الروسي
وضعت الحرب في أوكرانيا الأسلحة الروسية في حال الاختبار تحت ظروف القتال، وهو ما أعاد النظر في التفوق النظري لكثير من أنظمة التسليح الروسية، وقد أثبتت بعض الأسلحة الهجومية الروسية مدى عدم فعاليتها بالنظر إلى ارتفاع معدل فشل الصواريخ الروسية في الميدان، سواء في الإطلاق أو إصابة هدفها، فضلاً عن التقدم البطيء للجيش الروسي بشكل عام وتراجع قدرة المجمع الصناعي العسكري الروسي على تعويض الخسائر في المعدات العسكرية خلال الحرب، مع الالتزام بتسليم صفقات التصدير في مواعيدها المقررة. وتعترف موسكو بالتأثير السلبي للعقوبات الغربية في المجمع الصناعي العسكري وصادرات الأسلحة الروسية، إذ أمرت وزارة الدفاع شركات الإنتاج الحربي بتسليم بعض الأسلحة إلى الجيش عوضاً عن إرسالها إلى المستوردين خلال العامين المقبلين. وكشفت تقارير صحافية بوسائل إعلام روسية عن توقف الدول التي فرضت عقوبات على موسكو عن شراء الأسلحة الروسية، فضلاً عن قيام دول مثل اليونان وقبرص وفنلندا ودول أوروبا الشرقية أيضاً بإيقاف استيراد بعض قطع الغيار وخدمات الصيانة والتحديث لما لديها من أنظمة تسليح سوفياتية وروسية منذ الـ 24 من فبراير (شباط) 2022، مما أدى إلى فقدان روسيا كثيراً من الأسواق منذ غزو أوكرانيا. وأدى تردد بعض شركاء موسكو الإستراتيجيين في توقف صفقات تسليح مهمة من بينها طائرات مقاتلة متطورة وأنظمة دفاع جوي وغيرها خشية فرض عقوبات غربية أحادية ضدها، ويضيف إغلاق المجال الجوي أمام الطائرات الروسية مزيداً من القيود أمام تسليم بعض شحنات الأسلحة الروسية إلى عملائها التقليديين. وتعد روسيا ثاني أكبر مصدر للأسلحة التقليدية الرئيسة في العالم، وتعرضت إلى خسارة نحو 26 في المئة من إيراداتها من السلاح بإجمال 10.8 مليار دولار وينعكس التراجع في الإيرادات العامة للدولة الروسية على الاستثمارات المستقبلية في قطاع الدفاع. في المقابل نالت كوريا الجنوبية أكبر صفقات سلاح في تاريخ صناعتها العسكرية خلال العام الماضي، ففي يونيو (حزيران) الماضي وقعت بولندا مع سيول اتفاقاً لشراء 1000 دبابة قتال رئيسة من طراز »K2″، و672 مدفع « هاوتزر » ذاتي الدفع من طراز »K9″، و 48 طائرة مقاتلة خفيفة من طراز « FA-50″، فضلاً عن طلبية أخرى لشراء 218 نظام مدفعية صاروخية من طراز « K239-Chunmoo »
السوق السوداء
أسهمت الحرب الأوكرانية في انتعاش سوق السلاح غير الرسمية أو ما يعرف بالسوق السوداء في ظل ولوج نسبة كبيرة من الأسلحة التي كانت من المفترض أن تصل لدعم القوات الأوكرانية إلى هذا السوق، وهي نسب تتراوح وفق التقديرات المنشورة ما بين 50 و 70 في المئة من الأسلحة المرسلة، وهي أسلحة قد تصل في نهاية الأمر إلى دول أخرى أو جماعات جريمة منظمة أو تنظيمات إرهابية، بخاصة في ظل خبرة شبكات تهريب السلاح في أوكرانيا وغياب وسائل إنفاذ اتفاقات عدم نقل المعدات، وعدم قدرة الحكومات الغربية على التثبت من وصول الأسلحة إلى وجهتها النهائية داخل الأراضي الأوكرانية. وعلى مدى العام الماضي انحرفت شحنات أسلحة عدة موجهة إلى كييف لتجد طريقها إلى السوق السوداء للسلاح في أوروبا وأفريقيا وآسيا، وتدعو تقارير واجتماعات مجلس الأمن خلال العام الماضي إلى ضبط عملية التدفق الواسع النطاق للأسلحة إلى ساحة النزاع المسلح في أوكرانيا، في ظل أخطار عمليات نقل الأسلحة والذخيرة. وتتعلق تلك الأخطار بتسرب الأسلحة إلى مخازن الإرهابيين ومافيا السلاح، فضلاً عن نسف فرص التوصل إلى تسوية تفاوضية لتحقيق السلام والتهديد الكبير الذي تشكله الأسلحة والمتفجرات من مخلفات الحرب على التعافي وإعادة الإعمار بعد الحرب أيضاً. وتمتد سوق السلاح السوداء إلى صفقات يجري التفاوض في شأنها بين روسيا و »حركة طالبان »، بحسب ما كشفت تقارير صحافية غربية خلال الأسابيع الماضية، إذ تسعى موسكو إلى شراء معدات عسكرية خلفتها القوات الأميركية عقب انسحابها من أفغانستان في مقابل أسلحة روسية ومساعدات نفطية إلى « حكومة طالبان ».
ارتفاع معدلات التصادم
لا شك في أن الحرب الروسية – الأوكرانية أضفت ملمحاً جديداً في العلاقات الدولية يدور بصورة أساس في فلك عسكرة التفاعلات الدولية وارتفاع معدلات التصادم على حساب التكامل والتعاون الدولي، فعلى رغم أن التحديات التي فرضتها جائحة كورونا فرضت على الجماعة الدولية مزيداً من التعاون انطلاقاً من فرضية أن الازمات الكبرى والتحديات العابرة للحدود تقتضي نسج علاقات تعاونية للحد من تأثير تلك الأزمات، إلا أن الحرب الروسية -الأوكرانية بدلت هذه المفاهيم وأسهمت في فرض تفاعلات وتحالفات يغلب عليها طابع العسكرة والصدام على حساب التعاون. ويبدو أن هذا التحول منطقي بالنظر إلى العام الأول من الحرب الروسية -الأوكرانية في ضوء اعتبارين أساسيين، الأول ينطلق من فكرة تحول الحرب الخاطفة كما توقعها بعضهم انطلاقاً من التفوق العسكري الواضح لروسيا قبل غزو أوكرانيا إلى حرب ممتدة الآثار والتداعيات والتأثيرات، في حين يدور الثاني حول خشية الأطراف الدولية من الارتدادات العسكرية للحرب على ساحات وميادين أخرى خارج الميدان الأوكراني، وهذه الاعتبارات قادت نحو مزيد من العسكرة طوال العام الماضي، إن الحرب أسهمت في إعادة الدفع بعدد من المشاهد التي اندثرت في القارة الأوروبية، أولها ما يتعلق بانتعاش سوق السلاح في الداخل، والثاني يتعلق بالتحولات الجذرية في إستراتيجية صناعة الأسلحة عالمياً بالنظر إلى ظهور قوى جديدة كمصدر لتوريد السلاح، فضلاً عن تغير سياسات عدد من الدول الرامية إلى خفض التسليح وتقليص موازنة الإنفاق العسكري في مقابل توجهاتها نحو الرشادة السياسية للدول وتوجهات العولمة، فقد اعتمدت كل من ألمانيا واليابان سياسات « خفض الإنفاق العسكري »، ولكن مع تسارع وتيرة الأزمة الأوكرانية سعى كلاهما إلى زيادة نفقات الجيش، وهو ما يعزز سوق السلاح العالمية بالنظر إلى حجم التهديدات القائمة للحرب الروسية – الأوكرانية، والتهديدات المحتملة لتلك الحرب بالنظر إلى تشابك أطرافها وإزاحة تداعياتها خارج المنطقة الجيوسياسية للصراع القائم. من جهة أخرى، وضعت التحركات الروسية في النطاق الشرقي الأوروبي، سواء الهجوم الحالي على أوكرانيا أو عملية ضم شبه جزيرة القرم عام 2014، أو حتى الحرب الانفصالية في إقليمي أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا الجورجيين عام 2008، العالم كله أمام طبيعة متغيرة للعلاقات بين الدول، وأرجعته عقوداً نحو الوراء بإعلاء قوة السلاح بشكل يجعل من احتمالات اللجوء إلى الصراع العسكري الأقرب في ما يتعلق بأي نزاع حدودي أو سياسي أو اقتصادي، ليفرض مبدأ « ضم الأراضي بالقوة » الذي كان سائداً خلال حقبتي الحرب العالمية الأولى والثانية نفسه من جديد، ويعود بشكل فعلي عبر ضم الأقاليم الأوكرانية الأربعة للاتحاد الروسي ومن قبلهم شبه جزيرة القرم، و »هو ما يطرح إشكالات خطرة في ما يتعلق بالعلاقات الدولية ومستقبل التعاطي مع النزاعات المختلفة »
Laisser un commentaire